حين يتكلم الملك بلسان الآخرة..تتجاوز المحاسبة المألوف نحو الأعمق

فؤاد يعقوبي*
*مختص في علم النفس الإجتماعي في السياق المغربي
في ختام خطابه أمام البرلمان المغربي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية ليوم 11 أكتوبر 2025، اختار الملك محمد السادس أن يقرأ الآية الكريمة:
“فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” (الزلزلة: 7-8).
ورغم أنها آية ذات طابع ديني وأخلاقي، إلا أن إدراجها في هذا الموضع يحمل دلالات سياسية عميقة، خاصة في السياق المغربي الراهن، حيث تتقاطع الانتظارات المجتمعية مع التحديات التنموية والاقتصادية، ويعلو صوت المساءلة والمحاسبة.
فالخطاب يأتي في لحظة دقيقة، توشك فيها الولاية التشريعية على نهايتها، وتتصاعد فيها انتظارات جميع المواطنين، وخاصة الشباب، تجاه أداء المؤسسات المنتخبة والحكومة. وفي هذا الإطار، تمثل الآية رسالة واضحة ومباشرة لجميع الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين، بأن كل فعل مهما كان صغيرا سيحاسب عليه فاعله، خيرا كان أو شرا. إن الملك لا يذكر فقط بالقيم الدينية، بل يوظفها لتوجيه خطاب سياسي بليغ، يحث على تحمل المسؤولية، ويلوح بالمحاسبة الشاملة، ضمن منطق يتجاوز القانون والمؤسسات نحو رقابة أعمق: رقابة الضمير، والله، والتاريخ.
وما يميز هذا الخطاب أن نبرته لم تكن عاطفية أو خطابية بهدف التهدئة الظرفية أو الاسترضاء، بل جاءت هادئة في ظاهرها، صارمة في باطنها، تخاطب العقل أكثر من المشاعر، وتحمل قدرا من الرزانة السياسية التي توصل الرسالة دون صخب. لم يكن الخطاب مهادنا، بل حاملا لجوهر الجزاء قبل الوعيد، يذكر بالمسؤولية الدنيوية قبل أن يلوح بأي محاسبة أخروية، مما يمنحه قوة هادئة تتجاوز المألوف في الخطابات السياسية التوفيقية.
إن استدعاء هذه الآية في هذا التوقيت ليس مجرد تزيين بلاغي للنص السياسي، بل هو تثبيت لمرجعية أخلاقية للحكم وللعمل السياسي، حيث لا يقاس النجاح فقط بالنتائج المعلنة أو الأرقام، بل أيضا بالنية، بالنزاهة، وبالعدل في الأداء. وفي الوقت الذي تتزايد فيه المطالب بالشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، يقدم الاقتباس القرآني كمرآة أخلاقية أمام جميع من يملكون سلطة القرار أو التأثير في السياسات العمومية.
إنها رسالة مزدوجة: تحفيزية وتحذيرية. تحفز الفاعلين على الإخلاص في عملهم، مهما كان بسيطا، وتحذرهم من التهاون أو التلاعب أو الاستهتار بالمصلحة العامة، لأن الميزان الذي سيوزن به العمل ليس فقط قانونيا أو سياسيا، بل وجوديا وأخلاقيا. ومن هنا، يتجاوز الخطاب اللحظة السياسية الظرفية، ليؤسس لنموذج حكم يستند إلى الشرعية الأخلاقية، لا إلى الإنجاز فقط.
وبهذا، يصبح إدراج الآية ليس مجرد مسك ختام، بل أداة تواصل سياسي قوية، تحمل مضمونا رمزيا يستهدف الجميع، من المسؤول الكبير إلى المواطن البسيط، ومن البرلماني إلى الإداري، في دعوة مفتوحة لمراجعة الضمائر واستحضار أثر كل ذرة في بناء هذا الوطن.