
حسين العياشي
أعاد المجلس الأعلى للمغاربة المقيمين بالخارج، بشراكة مع الجامعة الدولية بالرباط، تسليط الضوء على أحد أكثر التحولات الاجتماعية صمتاً وأعمقها تأثيراً: عودة الكفاءات المغربية من مختلف بلدان العالم. فمن خلال دراسة حديثة اعتمدت مقاربة إثنوغرافية دقيقة، انتقل التقرير من لغة الأرقام والنسب إلى التماس الحقيقي مع التجارب الإنسانية، مطلعاً القارئ على دوافع العودة، وتحدياتها، وتعقيدات إعادة الاندماج في الداخل.
الدراسة، التي صدرت قبل أسابيع، لا تكتفي برصد الظاهرة، بل تغوص في طبقاتها العميقة. فهي تتبع قصص باحثين وأطر عليا ورجال ونساء أعمال وأسر بكاملها قررت أن تعيد رسم خط حياتها من جديد في المغرب. بعضهم يعود وقد أمضى عقوداً طويلة في الخارج، وبعضهم يجرب لأول مرة الإقامة بالمغرب بعيون البالغين لا بذكريات الطفولة، فيما يختار آخرون نمطاً جديداً للحياة يقوم على التنقل المستمر بين بلدين، في ما يشبه انتماءً مزدوجاً بات جزءاً من الهوية المعاصرة لعدد كبير من أفراد الجالية.
وتوضح الدراسة أن قرار العودة ليس لحظة عاطفية أو قراراً وظيفياً محضاً، بل مسار معقد يجتمع فيه البحث عن المعنى، والرغبة في الإسهام في التنمية الوطنية، والارتباط الثقافي، وأحياناً التعب من إيقاع الحياة في بلد الاستقبال. إنه مشروع ذاتي ومهني في آن واحد، تتداخل فيه الطموحات الشخصية مع حسابات الأسرة والعمل والحياة اليومية.
ويبرز التعليم العالي كأحد المحركات الكبرى لهذا المسار؛ فجامعات مثل UIR وUM6P والجامعة الدولية بأكادير والجامعة الأورو-متوسطية بوجدة، تقدم فضاءات أكاديمية أكثر انفتاحاً وتنظيماً، وتوفر شروطاً قريبة من تلك التي عرفها الباحثون في الخارج. مؤسسات تجمع بين الصرامة العلمية والانفتاح الدولي، وتتيح للأطر العائدة بيئة مهنية ملائمة تجعل عملية الاستقرار أقل صعوبة.
ومع ذلك، تكشف الدراسة الوجه الآخر للعودة، خصوصاً داخل النظام الجامعي العمومي. فالتحديات الإدارية، والجمود في المساطر، وصعوبة الاعتراف بالمسارات المهنية التي تم بناؤها في الخارج، تشكل عوائق حقيقية أمام الباحثين. ويشعر البعض منهم بما يشبه فجوة ثقافية ومؤسساتية عند مواجهتهم لبيئة لا تستوعب دائماً قيمة خبراتهم.
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى رواد الأعمال الذين يختارون المغرب لتأسيس مشاريع جديدة. فرغم الفرص المتاحة والأسواق الصاعدة والرغبة في الاستثمار، تعترضهم معوقات بيروقراطية وتمويلية تعرقل اندماجهم السريع. يعود هؤلاء محملين بخبرات دولية وتجارب واسعة، لكنهم يصطدمون أحياناً بواقع إداري وقانوني لا يساير طموحاتهم.
ومن زاوية اجتماعية وإنسانية، تبرز الدراسة تحديات الحياة اليومية للعائدين، من تكاليف الصحة والتعليم والسكن، إلى إعادة التكيف مع إيقاع الحياة المغربية وأنماطها الاجتماعية. كما تتوقف مطولاً عند وضع النساء العائدات، اللواتي يحملن طموحات مهنية واضحة، لكنهن يجدن أنفسهن أحياناً أمام بيئات أقل مساواة ومتطلبات اجتماعية أكثر ضغطاً، وهو ما يجعل تجربة العودة أكثر تعقيداً في حالتهم.
وتتجاوز الدراسة الأفراد لتلامس بنية الحكامة الخاصة بقضايا الجالية المغربية. فهي تشير إلى وجود قدر مهم من الكفاءات العالمية التي يمكن للمغرب الاستفادة منها، لكن آليات التنسيق بين المؤسسات والبرامج الموجهة للمغاربة المقيمين بالخارج ما تزال تعاني من التجزئة وقلة الوضوح. ويقترح التقرير إعادة بناء منظومة حكامة جديدة أساسها الدبلوماسية العلمية ودعم ريادة الأعمال وتحديث الخدمات القنصلية وإنشاء إطار مؤسساتي قادر على تعبئة الكفاءات بشكل فعّال.
كما تدعو الدراسة إلى توسيع مفهوم “الكفاءة” ذاته، وعدم حصره في الأطر العليا أو الباحثين فقط، بل إدراج المهارات التقنية والمهنية واللغوية والشبكات الاجتماعية التي يراكمها المغاربة في الخارج، واعتبارها جزءاً أساسياً من رأس المال الوطني.
وفي المحصلة، يقدم هذا العمل المشترك بين CCME والجامعة الدولية بالرباط صورة مركبة ومفتوحة لمسار العودة. فهذه الحركة ليست خطاً مستقيماً ولا هجرة عكسية بسيطة، بل سيرورة متعددة الأبعاد، مليئة بالتحديات لكنها محملة بإمكانات هائلة للمغرب إذا أحسن استثمارها.





