
حسين العياشي
أصدر البنك الدولي تقريره حول الدين الخارجي، كاشفاً عن مفارقة قاسية: بين عامي 2022 و2024 حوّلت الدول النامية إلى دائنيها 741 مليار دولار أكثر مما حصلت عليه على شكل تمويلات جديدة. في زمن يفترض أن يكون فيه التمويل رافعةً للتنمية، تحوّل الدين إلى نزيفٍ صامت يلتهم هوامش الميزانية، ويقتطع من موارد مخصّصة للصحة والتعليم والبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية.
هذا النزيف يتغذى من كتلة دين خارجي قياسية؛ إذ بلغ إجمالي الدين الخارجي للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط سنة 2024 حوالي 8,9 تريليونات دولار، فيما سددت هذه الدول في العام نفسه 415 مليار دولار كفوائد فقط، من دون احتساب أصل الدين. أرقام تعكس تشدد أوضاع التمويل عالمياً، وارتفاع كلفة الاقتراض إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود.
في هذا السياق المضطرب، يظهر وضع المغرب كحالة نموذجية لتزاوج الحذر مع التصاعد المستمر في المديونية. فقد بلغ رصيد الدين الخارجي للمملكة سنة 2024 نحو 67,99 مليار دولار، وهو ثاني أعلى مستوى في تاريخها. ويصل رصيد الدين الخارجي طويل الأجل إلى 57,20 مليار دولار، منها 45,72 مليار دولار ديون مضمونة على القطاع العام، و11,47 مليار دولار ديون خاصة غير مضمونة. ومنذ عام 2010 يسير منحنى المديونية في اتجاه تصاعدي واضح؛ إذ انتقل الدين الخارجي الإجمالي من 27,34 مليار دولار سنة 2010 إلى 66,01 ملياراً في 2020، ثم 65,68 ملياراً في 2021، و64,97 ملياراً في 2022، قبل أن يبلغ ذروته عند 69,632 مليار دولار في 2023.
وموازاة مع تضخم الرصيد، أخذ عبء خدمة الدين الطويل الأجل في الارتفاع التدريجي، متجاوزاً عتبة 5 مليارات دولار سنة 2020، منها أكثر من 4 مليارات مخصصة لتسديد أصل الدين. وفي عام 2024، سدّد المغرب 5,22 مليارات دولار كأصل دين (منها 4,41 مليارات تخص القطاع العام و811 مليوناً للقطاع الخاص)، إضافة إلى 1,79 مليار دولار كفوائد (منها 1,65 ملياراً للقطاع العام و139 مليوناً للقطاع الخاص). وبذلك بلغ إجمالي خدمة الدين طويل الأجل مستوى قياسياً يناهز 7,02 مليارات دولار في عام واحد، وهو رقم يعكس بشكل واضح حجم الموارد المالية التي تغادر الاقتصاد بدل أن توظّف في الاستثمار والإصلاحات الهيكلية.
ورغم هذا العبء، ما زالت المملكة تلجأ إلى التمويل الخارجي طويل الأجل، ولكن في بيئة مالية أصبحت أكثر كلفة وتشددًا. فقد حصل المغرب سنة 2024 على 8,61 مليارات دولار من التسديدات الجديدة طويلة الأجل، منها 6,86 مليارات موجّهة للقطاع العام و1,75 ملياراً للقطاع الخاص. هذا المستوى يتجاوز ما سُجّل سنة 2023 (6,43 مليارات دولار)، ويُعتبر الأعلى منذ عام 2020 حين وصلت التسديدات الجديدة إلى 9,31 مليارات دولار في سياق مواجهة تداعيات جائحة «كوفيد-19».
غير أن السؤال الجوهري اليوم لم يعد: هل يتوفر التمويل؟ بل: بأي كلفة يأتي؟ التقرير يوضح أن الدول النامية واجهت في 2024 أعلى متوسطات لأسعار الفائدة على القروض الجديدة منذ 24 سنة بالنسبة للدائنين العموميين، ومنذ 17 سنة بالنسبة للدائنين الخواص. أما على مستوى الأسواق السنداتية، فقد دارت أسعار الفائدة حول 10%، أي تقريباً ضعف المستويات التي كانت سائدة قبل 2020. هذا يعني أن كل دولار جديد يُستدان اليومْ يحمل فوق كاهله فائدة أثقل ومخاطر أعلى، ما يضيّق هامش المناورة المالية مستقبلاً.
على مستوى تركيبة الدائنين، يقدم المغرب نموذجاً لمحفظة ديون خارجية متنوّعة نسبياً، وهي نقطة قوة في إدارة المخاطر. فالبنك الدولي يظل الشريك المالي الأول للمملكة في 2024. وتشير معطيات «الدين العمومي والمضمون من طرف الدولة» إلى أن الدائنين متعددي الأطراف يستحوذون على 49% من الإجمالي، منهم 21% للبنك الدولي و10% للبنك الإفريقي للتنمية. أما الدائنون الثنائيون، فيمثلون حوالي 15%، تتصدرهم ألمانيا بنسبة 6%، تليها فرنسا بـ5% واليابان بـ2%. في المقابل، تشكل الديون تجاه الدائنين الخواص 36%، منها 29% عبر السندات و7% عبر البنوك التجارية. هذا التوزيع يتيح للمغرب تنويع مصادر التمويل وشروطه، لكنه يفرض أيضاً تعقيداً أكبر في إدارة آجال الاستحقاق والمخاطر المرتبطة بتقلبات الأسواق.
ولا يقتصر الأمر على الدين طويل الأجل؛ فالمغرب يحمل أيضاً ديناً خارجياً قصير الأجل بلغ 7,504 مليارات دولار في 2024، أي بتراجع واضح عن مستوى 10,160 مليارات في 2023. كما تراجعت الاستفادة من موارد صندوق النقد الدولي وحقوق السحب الخاصة إلى 3,285 مليارات دولار في 2024 مقارنة بالعام السابق. هذا الانخفاض يعكس جزئياً توجهاً لخفض الاعتماد على أدوات الطوارئ، والعودة التدريجية إلى قنوات التمويل الاعتيادية، وإن في سياق عالمي أكثر تكلفة وتشددًا.
وراء هذه الأرقام، يسلّط التقرير الضوء على تحوّل أعمق في خريطة التمويل العمومي بدول الجنوب؛ إذ بات الحصول على تمويلات خارجية منخفضة الكلفة أمراً أصعب، باستثناء ما توفره البنوك المتعددة الأطراف. نتيجة لذلك، اتجهت العديد من الدول النامية إلى تعميق الاعتماد على الدائنين المحليين، من بنوك تجارية ومؤسسات مالية داخلية. ومن بين 86 دولة تتوفر حولها معطيات لدى البنك الدولي، سجّلت أكثر من نصفها وتيرة نمو في الدين العمومي الداخلي أسرع من نمو الدين العمومي الخارجي.
وتعلّق كبيرة الإحصائيين في البنك الدولي، هايشان فو، على هذا التحول بالقول إن تطور الأسواق المالية المحلية يوفر فرصاً جديدة للتمويل، لكنه يحمل في طياته مخاطر لا ينبغي الاستهانة بها؛ فالتوسع المفرط في الاقتراض الداخلي قد يدفع البنوك الوطنية إلى تفضيل شراء السندات السيادية على حساب إقراض المقاولات والأسر، ما يضعف دينامية القطاع الخاص. كما أن الدين العمومي المحلي غالباً ما يكون أقصر أجلاً، ما يرفع كلفة إعادة التمويل ويزيد حساسية المالية العمومية للصدمات. لذلك، يحذر التقرير من الإفراط في اللجوء إلى هذه الآلية دون إستراتيجية واضحة لإدارة المخاطر والآجال.
الأخطر من ذلك أن ثقل المديونية لم يعد مجرد قضية أرقام في جداول المؤسسات المالية، بل أصبح عاملاً مباشراً في مستوى عيش المواطنين. فالتقرير يكشف أن 56% من سكان الدول الـ22 الأكثر مديونية – أي تلك التي يتجاوز فيها رصيد الدين الخارجي 200% من عائدات الصادرات – غير قادرين على تحمّل كلفة نظام غذائي صحي ومتوازن. بكلمات أخرى، كلما تضخمت المديونية وكلما تصاعدت كلفة خدمتها، تقلصت قدرة الدول على تمويل شبكات الحماية الاجتماعية، وارتفع عدد الأسر التي تُقصى من أبسط حقوقها الغذائية.
بالنسبة للمغرب، ما تزال المؤشرات بعيدة عن هذه المنطقة الحمراء، لكنها ليست مريحة بالكامل. فخدمة الدين الخارجي – أي مجموع تسديدات أصل الدين والفوائد – تمثل 13% من عائدات الصادرات و6% من إجمالي الدخل القومي. هذه النسب تُترجم عملياً إلى أن كل 100 درهم تحقّقها المملكة من الصادرات، يُوجَّه منها 13 درهماً إلى سداد ديون لصالح دائنين أجانب. إنها كلفة مالية فعلية تضغط على هوامش الاستثمار وعلى إمكانات تمويل الإصلاحات والبرامج الاجتماعية، وتفرض على صانع القرار السير على خيط رفيع بين ضرورة الحفاظ على مصداقية المملكة في الأسواق المالية الدولية، وواجب حماية القدرة الاستثمارية للدولة وتحصين المكتسبات التنموية.
بين تريليونات تتراكم على الورق ومليارات تغادر الميزانيات الوطنية كل عام، يبدو أن سؤال الدين لم يعد قضية تقنية يختص بها خبراء الاقتصاد وحدهم، بل أصبح جزءاً من النقاش المجتمعي حول أي نموذج تنموي يريد المواطن أن يعيش في ظله، وأي مستقبل مالي تختاره الدول لنفسها: مستقبل رهين بخدمة الدين، أم مستقبل يستثمر في الإنسان أولاً.





