
إعلام تيفي
شهدت مدينة العرائش لحظة استثنائية في تاريخها المعاصر، حيث خرجت جموع غفيرة من سكانها، في مشهد تعبيري غير مسبوق، يحمل رسالة واحدة موحّدة: “أعيدوا لنا الشرفة الأطلسية!”، رافضين ما اعتبروه طمسًا ممنهجًا لهوية المكان، بعد تحويل إحدى أبرز معالم المدينة إلى مساحة إسمنتية جرداء.
التحرك الشعبي لم يمرّ في صمت، بل التقطت صورَه من على شرفة مقابلة للشرفة الأطلسية وزيرة الإسكان الإسبانية السابقة في حكومة خوسيه لويس ثاباتيرو، ماريا أنطونيا تروخيو، التي عبّرت عن قلقها قائلة: “احتجاجات في البالكون الأطلسي بعد تحويله إلى إسمنتية. التراث التاريخي، البيئة، الهوية… كلّه مدمَّر”. جملة قصيرة لكنها عميقة، تلخص حجم الخسارة الرمزية والمعمارية التي أصابت المدينة.
تصريح الوزيرة السابقة لا يُقرأ كمجرد رأي شخصي، بل كشهادة خارجية وذات وزن، صادرة عن شخصية راكمت تجربة في السياسات الحضرية وتدبير المجال العمراني. وهو ما يمنح القضية بعدًا دوليًا، ويحوّلها إلى حالة دراسية لما لا يجب أن يقع في تدبير فضاءات الذاكرة والهوية.
الشرفة الأطلسية لم تكن مساحة عادية. كانت فضاءً يختزن طبقات رمزية متعددة: حديقة معلّقة تطل على البحر، نقطة التقاء اجتماعي، موضعًا للصورة العائلية، ورمزًا لهوية العرائش وانفتاحها على الأطلسي. المساس بها، من خلال تبليطها وتحويلها إلى سطح إسمنتي بزعم “التنظيم” و”سهولة الصيانة”، هو مقايضة خاسرة بين هوية لا تُقدّر بثمن و”مكاسب لوجستية” آنية.
ما وقع في العرائش يسلط الضوء على إشكالية أعمق تتعلق بالسياسات الحضرية في المغرب، التي لا تزال في كثير من الأحيان تتجاهل مبدأ المنظر الثقافي (Cultural Landscape)، الذي يربط بين الإنسان والمكان، بين الذاكرة الجماعية والمعمار، وبين البيئة والوجدان.
لكن، رغم الخسارة، ما يزال التدارك ممكنًا. بإمكان السلطات المحلية والجهات الوصية فتح ورش تصحيحي عاجل يعيد إدماج الغطاء النباتي، ويستحضر العناصر التاريخية التي تم محوها، مع إشراك معماريين، وخبراء بيئة، وممثلين عن المجتمع المدني في صياغة رؤية منصفة تُعيد للشرفة روحها وهوّيتها.
ما وقع في العرائش لا يجب أن يُطوى بالصمت، بل يُوثَّق كجرس إنذار حقيقي. لأن المدن، مثل البشر، تموت حين تُمحى ذاكرتها.




