شبكة التلاعب بالدقيق المدعم.. النيابة العامة تغلق الحدود وتفتح ملفات ثقيلة

حسين العياشي
بعد أسابيع من التحقيقات المكثفة التي انطلقت في منتصف شهر غشت الماضي، إثر توصل الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس بشكايات تتعلق بوجود تلاعبات في توزيع الدقيق المدعم، بدأت خيوط واحدة من أخطر قضايا الفساد الغذائي تتكشف شيئاً فشيئاً. فقد قررت النيابة العامة اتخاذ إجراءات صارمة، تمثلت في إغلاق الحدود في وجه مجموعة من أرباب المطاحن والموزعين المشتبه في تورطهم في تحويل الدعم العمومي إلى أرباح خاصة، في انتظار استكمال الأبحاث الجارية.
مصادر مطلعة أكدت أن التعليمات شملت أكثر من ثلاثة عشر شخصاً، بينهم أصحاب مطاحن كبرى، وصاحب مصنع للعجائن والكسكس، وعدد من الوسطاء المعروفين في القطاع، وذلك إلى حين انتهاء التحقيقات التي تباشرها المصلحة الولائية للشرطة القضائية بتنسيق مع لجان المراقبة الاقتصادية والصحية.
وجاءت هذه القرارات عقب تقارير أمنية دقيقة رفعتها الأجهزة المختصة إلى النيابة العامة، كشفت عن اختلالات جسيمة في منظومة توزيع الدقيق المدعم بجهة فاس مكناس. فقد تم ضبط كميات كبيرة من الدقيق غير الصالح للاستهلاك، وتوثيق عمليات خلط ومضاربة في حصص “الكوطا” المخصصة للفئات الهشة، في مشهد يعكس مدى عمق الفساد الذي طال قطاعاً يفترض أن يكون صمام أمانٍ غذائي للفئات المحدودة الدخل.
التحريات الأولية أسفرت عن حجز ما يفوق 115 طناً من الدقيق الفاسد داخل مستودعات تابعة لوحدات إنتاج، بحضور مصالح المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية “أونسا”، التي رصدت بدورها مخالفات خطيرة تمس شروط الجودة وسلامة التخزين. وتشير المعطيات إلى أن بعض المطاحن كانت تنتج دقيقاً خارج المعايير المعتمدة، وتوجهه إلى قنوات تجارية غير قانونية بغية تحقيق أرباح مضاعفة، في التفاف واضح على روح الدعم العمومي.
كما أظهرت التحقيقات أن عدداً من المستفيدين من حصص الدعم العمومي لجأوا إلى أساليب احتيالية محكمة، من خلال التلاعب في الفواتير والتصاريح، وإنشاء مسارات توزيع وهمية للدقيق المدعم، قبل بيعه في السوق بثمن محرر، وهو ما أدى إلى حرمان آلاف الأسر المستحقة من هذا الدعم الحيوي الذي تتكفل به الدولة لضمان توازن الأسعار.
القضية أعادت إلى الواجهة ملف “الدقيق الوطني للقمح اللين”، الذي كان قد أثار جدلاً واسعاً في الصيف الماضي، إثر تقارير تحدثت عن اختفاء الدقيق المدعم من الأسواق رغم المبالغ الضخمة التي تخصصها الدولة سنوياً لدعمه. فالدعم العمومي يصل إلى 238 درهماً للقنطار في الأقاليم الجنوبية، و143 درهماً في باقي مناطق المملكة، تتحملها خزينة الدولة بالكامل لضمان استقرار الأسعار وحماية القدرة الشرائية للفئات الهشة.
اليوم، ومع تفجر هذه الفضيحة التي تكشف وجهاً آخر من وجوه الفساد الاقتصادي، تتجه الأنظار إلى نتائج التحقيقات الجارية، أملاً في أن تسفر عن محاسبة المتورطين، وإعادة الاعتبار إلى منظومة الدعم التي أرادتها الدولة آلية للعدالة الاجتماعية، لا وسيلة للإثراء غير المشروع.




