شمال إفريقيا بين الحلم الديمقراطي وواقعية “النظام الفعّال” (تقرير)

حسين العياشي

رغم مرور أكثر من عقد على موجة الثورات العربية التي رفعت شعار الحرية والديمقراطية، لا تزال شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا متمسّكة بفكرة الديمقراطية.. ولكن بشروط مختلفة. فوفقًا لأحدث تقارير “الباروميتر العربي”، يبدو أن المواطن العربي بات ينظر إلى الديمقراطية من زاوية النتائج لا الإجراءات، ومن منظور الكرامة والمعيشة لا صناديق الاقتراع وحدها.

التقرير، الذي استند إلى استطلاعات رأي أجريت في عدد من دول المنطقة، يكشف عن تحوّل لافت في المزاج الشعبي: الناس ما زالوا يؤمنون بالديمقراطية، لكنهم سئموا من وعودها غير المنجزة، ومن تجارب لم تثمر سوى الإحباط والانسداد السياسي. ومع توالي خيبات الأمل في الحكومات المنتخبة، يزداد الإقبال على فكرة “النظام القادر” أكثر من “النظام الحر”.

يُظهر التقرير أن المواطن العربي يُعرّف الديمقراطية على أنها منظومة تحقق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، ومكافحة الفساد، وتوفير الأمن والكرامة الاقتصادية. فالديمقراطية بالنسبة له ليست مجرد انتخابات وبرلمانات، بل وسيلة تضمن حياة أفضل وعدالة ملموسة.

ويشير “الباروميتر العربي” إلى أن الدعم للديمقراطية الليبرالية لا يزال موجودًا، لكنه يتراجع تدريجيًا، وأن هناك انقسامًا واضحًا في المواقف داخل بلدان المنطقة حول شكل النظام الأمثل للحكم.

بحسب نتائج الاستطلاع، يحتل المغرب المرتبة الأولى في دعم النظام التعددي بنسبة 68%، تليه فلسطين (54%)، موريتانيا (52%) والأردن (51%).
أما في دول مثل لبنان (42%)، العراق (39%) وتونس (38%)، فقد انخفض الدعم إلى ما دون النصف، مقارنة بما كان عليه عقب “الربيع العربي”.

وخلال الفترة بين 2012 و2024، تراجع التأييد للنظام البرلماني بشكل حاد، خاصة في العراق (-34 نقطة)، تونس (-28 نقطة)، لبنان (-26 نقطة)، والأردن (-15 نقطة). وحده المغرب سجّل تراجعًا طفيفًا (-5 نقاط).

تونس، مهد “ثورة الياسمين”، تُعد المثال الأوضح على خيبة الأمل من التجربة الديمقراطية. فحسب التقرير، يتقاسم التونسيون اليوم المواقف بين تأييد النظام البرلماني الليبرالي (38%) والدعم لحكم قوي ذي طابع سلطوي (36%)، ما يعكس انقسامًا عميقًا وشعورًا بالإحباط من المسار السياسي بعد 2011.

في المقابل، يُسجّل المغرب استثناءً إيجابيًا في المنطقة، إذ تُظهر النتائج أن 23% فقط من المواطنين يؤيدون نظامًا سلطويًا، مقابل غالبية واضحة تفضّل النظام الديمقراطي. ويُرجّح التقرير أن يكون النمو الاقتصادي النسبي وتحسّن كفاءة الإدارة الحكومية وراء هذا التفاؤل النسبي بالديمقراطية كمفهوم وممارسة.

غير أن المثير للانتباه هو تنامي الميل نحو “السلطوية الناعمة”. فالدعم لما يُعرف بـ”الديكتاتورية الخيّرة” — أي النظام الذي يضمن الاستقرار والتنمية دون مشاركة سياسية واسعة — سجّل ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة.
فمنذ عام 2016، ارتفعت نسبة مؤيدي هذا النموذج بـ26 نقطة في المغرب، و24 في الأردن، و20 في لبنان، و10 في تونس.

وفي بعض الدول، بات نحو ثلث السكان مستعدين للمقايضة بين الحقوق السياسية وتحقيق الأمن والرفاه.
يعلّق التقرير قائلًا: “المواطنون العرب لا يرفضون الديمقراطية، لكنهم باتوا يطلبون منها أن تُنجز قبل أن تُنظّر.”

تخلص الدراسة إلى أن المنطقة العربية تقف اليوم أمام مفترق طرق سياسي وفكري: فهي ما زالت تؤمن بالديمقراطية كقيمة، لكنها تتوق إلى نموذج حكم أكثر كفاءة وعدلاً. وبين الرغبة في الحرية والحاجة إلى الاستقرار، يبدو أن المواطن العربي يعيد تعريف الديمقراطية على طريقته الخاصة — ديمقراطية تُقاس بما تقدّمه، لا بما تُعلنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى