ظاهرة العنف المجتمعي في توغل مستمر.. فأين المفر؟

حسين العياشي

منذ خريف عام 2020، ومع بدء رفع إجراءات الحجر الصحي تدريجياً، باتت شاشات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي تعجّ بمشاهد العنف والاحتقان، على امتداد شوارع باريس ونيويورك وصولا إلى ضواحي برشلونة وشيكاغو، ومن كيب تاون إلى الدار البيضاء.

لم يكن الأمر مجرد عودة إلى الحياة الطبيعية، بل أشبه باندلاع مكبوت، عبّرت عنه الأجساد بالكراهية والصراخ، وبات الجمهور يجد ألف حجة لتبرير العنف. في هذا السياق، برز مصطلح “l’ensauvagement sociale” أي الوحشنة الاجتماعية، ليصف حالة الانفلات الجماعي، لكنه سرعان ما تحول إلى أداة لتأجيج الجدل، بدلاً من فهم جذور هذا التحول العنيف.

فما الذي وقع للعالم بعد جائحة كورونا؟ ولماذا بات العنف يبدو وكأنه اللغة الجديدة التي تفرض التوافقات بين مكونات المجتمع؟ وهل يمكن أن تعكس تراكمات الأحداث العنيفة انفجارا أخلاقيا، أم انهيارا بنيويا عميقا؟ ومذا عن المغرب؟

إن الحجر الصحي الذي شهده العالم سنة 2020 قد شكل لحظة فارقة في التاريخ المعاصر. حيث تم تعليق الحركية الاقتصادية والاجتماعية لمليارات البشر بشكل مفاجئ وغير مسبوق، لتُختبر القدرة النفسية للأفراد على العزلة، ويُختبر صبر المجتمعات على الغموض والقلق الجماعي. ورغم أن إجراءات الحجر كانت ضرورية للحد من انتشار الفيروس، فإن تبعاتها النفسية والاجتماعية كانت عميقة المدى.

تشير عدة دراسات  من بينها تقرير Lancet Global Health لسنة 2021  إلى أن معدلات الاكتئاب والقلق ارتفعت بنسبة تتجاوز 25بالمئة عالميًا بعد الجائحة. فرنسا لوحدها، سُجلت فيها زيادة بنسبة 40بالمئة في العنف المنزلي خلال فترة الحجر، بحسب وزارة الداخلية الفرنسية. أما في القارة الأمريكية، فقد أدت الأزمة الاقتصادية المصاحبة للجائحة إلى انهيار أنظمة الدعم الاجتماعي، ما تسبب في انفجارات اجتماعية، خاصة في البرازيل وكولومبيا.

لكن الأخطر لم يكن ما حدث داخل البيوت، بل ما وقع لاحقاً في الفضاء العمومي. إذ بدا وكأن الشوارع قد تحولت إلى مسارح لانفجار الغضب، والعنف اللفظي والجسدي. مع كل رمشة عين تنشب مواجهة في بقعة ما من العالم، إما مواطنين فيما بينهم يوحدهم الوطن وتفرقهم القناعات، وإما مواطنين في مواجهة الشرطة، أو بين الطلاب والمدرسين، وحتى بين السائقين والركاب. قد تبدو في الوهلة الأولى على أنها وقائعة ليست غريبة علينا، لكن دلالات خطورتها تكمن فيما أصبحت عليه. حيث بات من النادر أن تنتهي مشادة كلامية دون وقوع جريمة قتل.

في هذا السياق المشحون، لجأ سياسيون، خصوصاً في أوروبا، إلى مصطلح “l’ensauvagement”، ليصفوا به هذا الانفلات. ولعل أبرز من استخدمه كان وزير الداخلية الفرنسي السابق جيرالد دارمانان، في حديثه عن تصاعد الهمجية في الأحياء الشعبية. لكن المصطلح سرعان ما أثار جدلاً واسعاً، لأنه يحمل إيحاءات ثقافية وعنصرية، ويفترض كونها ظاهرة دخيلة على المجتمع، قادمة من خارجه، ناسبا إياها إلى المهاجرين أو المهمشين.

وإن كان فهم ظاهرة العنف المجتمعي يبدو سهلا في شقه النظري، غير أن الواقع أكثر تعقيداً. فلا يمكن ربط العنف بجماعة أو فئة، بل أصبح ظاهرة شاملة، عابرة للطبقات والمجتمعات. المشاجرات في المدارس، الاعتداءات في وسائل النقل، الانفلات في ملاعب كرة القدم، وجرائم الكراهية ضد الأقليات، كلها أشكال مختلفة من عنف يومي يعبّر عن أزمة أعمق: أزمة فقدان الثقة في المؤسسات، وفقدان الأمل في المستقبل.

الأعراض نفسها وإن اختلفت الجغرافيا، فما يُلاحظ في فرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا، يجد صداه بدرجات مختلفة في دول الجنوب، ومنها بلدان المغرب العربي. في المغرب مثلاً، تصاعدت بعد الجائحة مؤشرات الجريمة، والعنف في المؤسسات التعليمية، والاعتداءات في الأماكن العمومية. تُسجل أرقام وزارة الداخلية ارتفاعاً مطرداً في القضايا الجنحية، خصوصاً في فئات الشباب. وعلى الرغم من أن الأمر يُعزى غالباً إلى الفقر والبطالة، إلا أن التحليل البنيوي يكشف عن أزمة انتماء، حيث يشعر الآلاف من الشباب أن لا مكان لهم في المنظومة المجتمعية أو السياسية.

المدرسة، التي كانت يوماً أداة للاندماج الاجتماعي، فقدت الكثير من سلطتها. الأسرة تراجعت كحاضنة أخلاقية، بفعل الضغط الاقتصادي والتفكك الداخلي. أما الفضاء الرقمي، فقد أصبح منصة لتفريغ العنف الرمزي والتعبير عن الاحتقان الوجودي. إنه عنف جديد، لا يحتاج إلى سلاح أبيض، بل يكفي أن يكون الهاتف في يد شخص غاضب.

الهمجية المجتمعية كما اخترت أن أسميها، ليست قدراً محتوماً، ولكنها نتيجة طبيعية لتحولات عميقة تجاهلها العالم طويلاً، تفاقم الفوارق الطبقية، تآكل الروابط الاجتماعية، تصاعد الفردانية، وانهيار منظومات التربية المواطنة والدينية على وجه الخصوص. كلها أعطاب كانت الجائحة بمثابة مرآة كاشفة لها، لكنها لم تخلقها.

إن مواجهة هذا الواقع لا تبدأ بإدانة سلوكات الأفراد، بل بتفكيك المنظومة البنيوية التي تُنتج الإقصاء والتهميش وتغذي العنف. لا نحتاج إلى مزيد من الكاميرات الأمنية، بقدر ما نحتاج إلى مشاريع لإعادة بناء الثقة، وإعادة تأهيل الفضاء العمومي، وتمكين الأفراد من حقوقهم الأساسية.

فالخطر الأكبر ليس أن نتحول إلى وحوش همجيين، بل أن نفقد قدرتنا على رؤية الإنسان في الآخر، وعلى تصديق أن العالم، رغم كل شيء، يمكن أن يكون أكثر عدلاً وسلاماً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى