“فراقشية التذاكر”.. هل من خطة استباقية؟ أم سوف ننتظر سقوط الصومعة؟

حسين العياشي
في صباح كل مباراة كبيرة، يستيقظ المشجعون على إيقاع تحديثات التطبيق وصفوف الانتظار الافتراضية، ثلاث دقائق فقط تكفي لينقلب الأمل إلى إحباط، التذاكر اختفت من المنصة الرسمية، لكنها تظهر بعد لحظات في منصات غير رسمية وصفحات مجهولة بأضعاف سعرها. عند بوابات الملعب المشهد يتكرر منذ سنوات الأبيض والأسود. شغف جماهيري صادق يقابله جشع منظّم يتقن اصطياد الثغرات. هذه الحلقة المفرغة لم تعد مجرد إزعاج موسمي، خاصة وأننا على أعتاب تنظيم كأس أمم افريقيا، وغيره من التظاهرات العالمية، تكون الجماهير خلالها هي الصورة الأولى التي سيراها العالم. حين تتهاوى المنصات تحت الضغط وتُستنزف التذاكر في ثوان ليحتكرها “فراقشية التذاكر”، سوف تتضرر الثقة في المنظومة كلها من الجامعة الملكية لكرة القدم إلى الجهات المنظمة والرقابية.
السبب من وراء الأزمة، ليس ندرة المقاعد وحدها بل هشاشة السلسلة من المصدر إلى البوابة، القنوات محدودة زمنياً ومكانياً، الإطلاقات تتم بشكل مفاجئ، آليات الحماية الرقمية أمام الروبوتات ضعيفة للغاية، والربط بين هوية المشتري وحامِل التذكرة لا يزال شكلياً فقط. في المقابل، نشأت شبكات ومضاربين “فراقشية”، تعرف توقيت الطرح وتوزيع الحصص وتستبق الجمهور بشراء كاسح ثم تعيد البيع بهوامش فاحشة عند أول زقاق قرب الملعب.
الحل ممكن ومجرّب في أماكن كثيرة حين تتوافر الإرادة وتُحسَن الأدوات. البداية بتذكرة رقمية شخصية مرتبطة برقم الهوية أو الجواز مع حد أقصى للشراء لكل حساب وعدم السماح بنقل الملكية إلا عبر منصة رسمية لإعادة البيع بسعر مضبوط يضمن استرجاعاً عادلاً من دون مكاسب مضاربية. صف انتظار افتراضي شفاف يمنح كل مستخدم رقماً وزمناً متوقعاً ويمنع القفز عبر البرمجيات. تدقيق على الأجهزة والمستخدمين يرصد السلوك الآلي ويستبعده تلقائياً. توزيع ذكي للحصص بين المنصة والبيع المباشر في نقاط معتمدة خارج المدن الكبرى حتى لا تبقى التذكرة امتيازاً لمن يملك إنترنت سريعاً وبطاقة مصرفية دولية.
وبما أن النجاعة لا تكتمل من دون ردع صريح، يجب القطع مع كل أشكال التجارة غير القانونية، وذلك عبر تتبع عروض البيع غير المرخص في الفضاء الرقمي وحول الملاعب، حملات تفتيش قبل وبعد المباريات، وغرامات رادعة تطال البائع والمشتري معاً.
لكن مهما تشددت القوانين وتطورت المنصات، فإن الحلقة الأضعف تظل في يد المواطن العادي، خاصة وأن السوق السوداء ليست شبكة خفية قائمة بذاتها، بل هي معادلة بسيطة: عرض يقابله طلب متهافت. كلما اندفع مشجع لشراء تذكرة بضعف أو ثلاثة أضعاف ثمنها، فإنه في الحقيقة يضخ الدم في عروق هذه التجارة غير المشروعة، ويمنحها مبرراً للاستمرار. قد يبرر البعض تصرفه بشغف لا يحتمل الانتظار، أو بخوف من ضياع فرصة مشاهدة فريقه المفضل، لكن النتيجة تظل واحدة، وهي تشجيع “الفراقشية” على مواصلة استنزاف السوق.
إن رفض شراء التذكرة من السوق السوداء ليس مجرد خيار فردي، بل موقف جماعي يقطع سلسلة الربح التي تقوم عليها هذه التجارة. حين يدرك المشجعون أن كل درهم إضافي يدفعونه في السوق السوداء، يتحول إلى وقود يغذي الاحتكار ويضاعف معاناتهم في المباراة القادمة، عندها فقط يمكن أن تنكسر الحلقة. المسألة، في النهاية، ليست مسؤولية الدولة وحدها ولا الأندية ولا المنظمين، بل معركة وعي جماعي تُخاض في الشارع وعلى بوابات الملاعب وفي الفضاء الرقمي، حيث يصبح المشجع شريكاً أساسياً في محاربة المضاربة لا مجرد ضحية لها.
وبهذا تكون أزمة التذاكر والسوق السوداء، ليست مجرد إشكال تقني أو خلل عابر في منظومة البيع، بل هي مرآة تعكس علاقتنا بالرياضة كفضاء للفرجة والعدالة والشفافية. وإذا كان المغرب مقبلاً على احتضان تظاهرات قارية وعالمية، فإن الرهان الحقيقي يتجاوز مجرد تنظيم مباريات ناجحة، ليصل إلى بناء ثقة راسخة بين المواطن ومؤسساته، ثقة تُترجم في حق مشروع للحصول على تذكرة بسعرها العادل، وفي فرجة رياضية تليق بالانتظارات.
فالقضاء على السوق السوداء لن يتحقق إلا بتضافر الجهود: منظومة بيع شفافة، مراقبة صارمة، وأهم من ذلك جمهور يختار الوعي والمسؤولية على الانجرار وراء “الفراقشية”. عندها فقط، يمكن للمدرجات أن تعود إلى معناها الأصيل: فضاء للفرح الجماعي، لا سوقاً للابتزاز، المضاربة، والربح السريع الذي لا ضريبة عليه.






