قمر المليار دولار ودعاية رودولف سعادة التي تخفي الحافة خلف العشب

عبد الفتاح نعوم *

باستثناء موقع واحد معروف بسباحته المتخبطة داخل إيديولوجياه المتعنتة تعنتا إرضاؤه غاية لا تدرك، فإن الموْقعين المغربيَّيْن الآخرين قد نشرا ما نشراه من باب المواكبة ورفع العتب والبحث عن منسوب عالِ من “الكليك”، والأمر في جميع الأحوال محمول على ضعف المهنية وعلى كسلِ يشلّ كفاءة البحث والتحقق والتدقيق.

يتعلق الأمر هنا بالخبر الذي راج في ثلاث مواقع إلكترونية مغربية معروفة، وتناقلته عنها مؤسسات إعلامية أوروبية ووكالات أنباء معروفة، والذي يتناول صفقة مزعومة بين المغرب وإسرائيل بخصوص “قمر اصطناعي تجسسي”، بقيمة قيل أنها تبلغ مليار دولار، أي ما يقارب عُشر الانفاق العسكري السنوي لدولة مثل ايران أو السعودية بحسب معطيات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، وهي النفقات التي لا تتعلق عادة بالتسليح فقط، بل قد تمتد إلى القيادة والدعم والتدريب والبحث التقني والعسكري وما إلى ذلك.
بل وطفق الطفيليون الذين يقتاتون على مثل هذه الأخبار في السعي إلى الربط بينه وبين حرب غزة، فقط لتصوير المغرب وكأنه تخلى عن مواقفه من غزة ودعمها بالقول والفعل، وهو تناول عموما لا يختلف عن تناول استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية منذ نهاية العام 2020، فضلا عن الاقتيات على الأخبار الزائفة تارة وليّ أذرع أخبار أخرى لقول الشيء ذاته.

وليس كل الإسهال الجزائري-الإخواني-القومجي-اليساري ببعيد عن هذا البناء الخطابي الذي يتهاوى سريعا أمام تناقضه بين إدانة أي علاقة دبلوماسية مع إسرائيل وبين صمته المطبق حينما تنجح إحدى الدول التي لديها علاقة مع إسرائيل في افتكاك أحد المعابر وإيصال المساعدات إلى ضحايا العدوان الهمجي على غزة، وكأنه مطلوب من الجميع أن يقطع علاقاته مع إسرائيل وأن لا يحاول أي كان أن يبذل أي جهد لفتح باب ما أمام عملية سياسية هي في النهاية أفق كل أطراف المشكلة، بل إن كل الأطراف تتحجج على بعضها البعض بكونها هي من يعرقل مسلسل التسوية السياسية، وبالرغم من أن الرهان على حل المشكلة بحرب إقليمية عربية إسرائيلية قد انتهى إلى غير رجعة من أن وضعت حرب العام 1973 أوزارها.
غير أن الخبر الرائج خلال اليومين الماضيين هو عبارة عن تحديث سخيف سمج لذلك الإسهال الدعائي اتجاه المغرب، واتجاه المغرب تحديدا، وذلك عبر اجترار خبر كاذب وإعادة تتبيله ببعض البهارات المنتهية الصلاحية، حيث عمد موقع كالكاليست الاقتصادي الإسرائيلي المعروف، والتابع لمجموعة إيدوعوت أحرونوت، إلى نشر خبر منقول حرفيا عن مقال نشرته جريدة لا تريبيون الفرنسية بتاريخ 5 ديسمبر من العام 2023، أي بعد نحو شهرين من أحداث السابع من أكتوبر، وهو الخبر الذي يتحدث عن صفقة مزعومة بين المغرب وإسرائيل بخصوص رغبة المغرب في اقتناء قمر صناعي تجسسي من صنع إسرائيلي، وذلك بقيمة مليار دولار. وفي حين اكتفى الموقع الاسرائيلي بنسخ المقال ولصقه فقد أضاف إليه أيضا فقرة تتحدث عن زيارة مزعومة لوزير إسرائيلي الى الرباط وتوقيع الصفقة، وكان ينقصه فقط وصف ألوان الطاولة وفناجين القهوة ومستوى الاضاءة في المكتب الذي عقدت فيه الصفقة، وواقع الحال أن مثل هذه الأخبار التي تتعلق أساسا بما ينتمي إلى الأسرار العسكرية للدول، لا يمكن استقاؤها من المصادر الإعلامية التي ترفع العتب فقط بالصاق أي شيء بـ”مصدر موثوق”.
واللافت للنظر هنا أن الجريدة الفرنسية هي من ممتلكات رجل الأعمال الفرنسي من أصول لبنانية رودولف سعادة، والذي يمتلك أيضا قناة BFM TV، التي طردت قبل فترة صحافيا مغربيا فقط لأنه وصف الصحراء بالمغربية، فمالك المحطة هو واحد من عناصر اللوبي الاقتصادي والاعلامي الداعم لماكرون، وهو صديق مقرب له، وبالتالي فالخبر في أساسه كان حلقة من حلقات الاستهداف الإعلامي التي تقوم بها صحف وتلفزيونات فرنسية عديدة، لكنها لم تؤت أكلها في حينها، بل وحاولت نفس الجهات أن تستغل خبر المرور البريء لسفينة إسرائيلية بمضيق جبل طارق وأيضا لم تؤت أكلها، فجرى تسليع هذا الخبر مرة أخرى على صفحات موقع إسرائيلي معروف أيضا بولاءاته للدعاية الفرنسية. بل إن حتى إعادة نشره للخبر أراد منها في هذا التوقيت أن يهاجم أيضا نتنياهو باعتبار الأزمة المالية التي سقطت فيها حكومته جراء حرب غزة، وهو هدف أيضا يخدم ماكرون واللوبي الداعم له، تزامنا مع الخلاف الدبلوماسي الذي يرخي بظلاله على العلاقات الفرنسية الإسرائيلية بعد تدخلات ممنهجة لوزير إسرائيلي في مجريات الارتباك الفوضوي الانتخابي الذي تمر منه فرنسا خلال هذه الأيام.
فالصانع الفرنسي لهذه الدعاية المسلعة أراد فقط أن يعطي لذبابه المنتشر بكثرة فرصة القول إن الرباط تساعد إسرائيل بمليار دولار للخروج من أزمتها التي وقعت فيها بفعل حرب غزة، تسهيلا للضخ الإعلامي الممنهج ضد المغرب منذ فترة طويلة، وفي الوقت نفسه إمدادا بحطب الدعاية لحلفاء فرنسا الموضوعيين الراعين للعباءة “الجزائرية-الإخوانية-القومجية-اليسارية” أي كل من قطر وإيران وتركيا والأذرع الإعلامية التي يسخرونها لخدمة ذات البروباغندا، ولهذا فلا غرابة أن نجد كبار المعتمدين على تقارير موقع كالكاليست منذ فترة طويلة، هم الجزيرة ومركز عزمي بشارة وقناة المنار والميادين وكل مواقع “الممانعة”، وهذا يعزز أيضا فرضية النوم على مخدة دعائية وسياسية واحدة بين كل هؤلاء حينما يتعلق الأمر بمواجهة المغرب والتشويش على مسار صعوده وتميزه لا على صعيد التشبيك الدولي والإقليمي ولا على صعيد قدراته الدبلوماسية التي تجعله ينجح حيث يفشل الآخرون، لكونه يبني العلاقات التعاونية على أسس شفافة ونزيهة، وفي الوقت نفسه يحافظ على مواقفه ومبادئه ولا يعرضها لأي اهتزاز أو يضعها في موضع المساومة.
غير أن الغوص قليلا في خلفيات هذه الهجمة المسعورة على المغرب، ومحاولة تشويه دوره الدبلوماسي النزيه اتجاه فلسطين وما تتعرض له من ظلم، سيقودنا لا محالة إلى معالجة الوقاعة التي أفاضت الكأس، وجعلت موقع “لا تريبيون” الفرنسي يباشر تزييف الأخبار منذ نهاية العام الماضي، وذلك لكون المغرب قد استثنى فرنسا منذ مدة طويلة من سوق التسليح العالمي، وذلك منذ أن جرى توقيع الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي في نهاية العام 2020، وهو الحدث الذي لطالما بادرتُ إلى اعتباره بمثابة “حلف بغداد” إفريقي، سيجري انطلاقا منه صنع مفهوم جديد للقارة الإفريقية وفرصها ومشاكلها داخل ملفات السياسة الدولية، وأن يضطلع المغرب بهذا الموقع وهذا الدور فهذا كاف ليزعج أوروبا عن بكرة أبيها، وأن يزعج فرنسا أكثر لكونها هي التي لطالما زعمت أن إفريقيا توجد على كفها وداخل جيبها، غير أنها كانت تختبئ خلف الإسبان والألمان وباقي الدول التي أزعجها الاتفاق الثلاثي قبل أن تصحح علاقاتها مع المغرب وتترك فرنسا في العراء هي وإقليمها الإفريقي ضعيف الحيلة.
إن هذا الاستثناء المغربي لفرنسا وتطويره لعلاقاته العسكرية مع إسرائيل يزعج فرنسا وعباءتها “الجزائرية-الإخوانية-القومجية-اليسارية”، أيما إزعاج، لكن استعماله دعائيا لا يعني أنه الموضوع الوحيد الذي يزعجهم جميعا، لكنه الموضوع الأصلح لاستعماله دعائيا والأكثر إثارة للرأي العام، والأكثر قابلية للاستعمال بغرض تشويه صورة المغرب واستمالة مشاعر الرأي العام العربي والإسلامي الذي جرى لعقود طويلة إقناعه أن الحل الوحيد مع إسرائيل إما حرب تقليها في البحر أو مقاطعتها إلى ما لا نهاية، لكن البحث قليلا في بروفايل مالك موقع “لا تريبيون” رودولف سعادة كفيل بأن يفك اللغز الذي يجعل واحدا من كبار بارونات فرنسا الموالين لماكرون ممتلكا لقاب مليء بالضغينة على المغرب، حتى يكلفه الأمر الانتقال بنشاطه الاستثماري كاملا نحو الإعلام وامتلاك أذرع إعلامية كثيرة تعمل على شيء واحد هو انتاج الحملات المنظمة بمعية أذرع أخرى ضد المغرب وصورته ومصالحه وحقه في الريادة والصعود.
رودولف سعادة هذا ليس سوى نجل الملياردير الفرنسي من أصول لبنانية-سورية جاك سعادة، أي مؤسس شركة CMA- CGM الفرنسية المتخصصة في الشحن ونقل الحاويات، والذي بدأ مشواره الاستثماري بامتلاك شاحنة للنقل البري، قبل أن تصبح مؤسسته ثالث ناقل بحري في العالم، ومنذ العام 2022 شرع نجله في اكتساح مجال الإعلام حينما أطلق مجموعة Whynot Media التي تمتلك عدة مواقع الكترونية من ضمنها موقع “لا تريبيون” صاحب الأخبار الكاذبة والدعاية المضللة ضد المغرب، وليباشر عملية استحواذ طالت عددا من الشركات الإعلامية الفرنسية مثل “لابروفانس” و”كورس ماتان” وصولا إلى أكبر صفقة إعلانية أجراها في العام 2024 عبر شرائه مجموعة “ألتيس ميديا” بالكامل من مالكها صديقه الملياردير الفرنسي الإسرائيلي من أصول يهودية مغربية باتريك دراحي، وهي المجموعة التي تضم عدة منابر إعلامية أشهرها قناة BFMTV، وبالتالي فلاشك أن للمؤسسات التي تقود حملات دعائية منظمة ضد المغرب خلفيات وأسباب مرتبطة بالمصالح التي يمتلكها أمثال رودولف سعادة والتي تزعجها للغاية تطلعات المغرب الاستثمارية ومشاريعه الكبرى.
ولعل بحثا قصيرا في علاقة شركة CMA- CGM بالمغرب ستكشف المستور، وستبين لماذا يحد رودولف سعادة أسنان دعايته وحملاته ضد المغرب، فشركته كانت قد اشترت الشركة المغربية للملاحة البحرية المعروفة باسم “كوماناف” منذ العام 2014، بعد تسوية قضائية، وهو ما جعل عملاق الملاحة البحرية الفرنسي يصبح ذا تأثير استثماري هام بالنظر لأهمية السواحل الأطلسية والمتوسطية للمغرب، قبل أن تمنى كل أحلامه بالخيبة ويصاب بالصدمة على إثر إقدام رجل الأعمال المغربي عثمان بنجلون سنة 2016 على تأسيس الشركة الإفريقية للنقل البحري AFRICA MOROCCO LINK المعروفة اختصارا باسم AML، وذلك باشتراك بين مجموعة بنك افريقيا المملوكة لبنجلون (51٪)وبين عملاق النقل البحري اليوناني Attica Holdings SA (49٪)، وليس هذا فحسب بل إن بنجلون سيقوم في أبريل الماضي فقط بتوقيع صفقة استحواذ بالكامل على حصة الشريك اليوناني، لتتحول شركة AML إلى شركة مغربية مائة بالمائة، ولاشك أنه كان لهذا وقع الكارثة على رودولف سعادة الذي يتجرع مرارة أن يصل المغرب إلى ذروة صعوده من حيث قوته البحرية، وهو واحد من أذرع المصالح الفرنسية التي حاولت دائما أن تجعل المغرب ساحة استثمارية لها ولشركاتها.
ومن هنا نفهم لماذا اختار موقع لا تريبيون أن يشن حملته على المغرب من تاريخ الخامس من ديسمبر من العام 2023، لاسيما وأن ذلك التاريخ يبعد فقط بشهر واحد من الخطاب الملكي التاريخ الذي ألقاه جلالة الملك بمناسبة الذكرى الـ48 للمسيرة الخضراء، أي في يوم 6 نوفمبر 2023، والذي أعلن بالحرف عن “التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي”، وهي العبارة التي لاشك أن تقض مضجع رودولف سعادة ومن على شاكلته، وهي ليست سوى واحدة من عشرات الجمل التي تعنى بقطاعات استثمارية كثيرة اختار المغرب بخصوصها أن يختط لنفسه نهجا اقتصاديا وطنيا لا يعزله عن الفاعلين الدولييين من أي مكان كانوا، بل يجعله شريكا ندا لهم، سواء تعلق الأمر بالاستثمار داخل المغرب أو في أي مكان من هذا العالم، وهذا هو النهج الذي مازال بارونات المال والأعمال الفرنسيين غير قادرين على استيعابه وتقبله، بل شرعوا يهرعون تباعا نحو ابتلاع وانشاء مؤسسات الضخ الإعلامي للتهجم على المغرب صباحا مساء.
إن ما يواجهه المغرب هو عقلية استعمارية إملائية فوقية، تريد منه أن لا يبرح مكانه، وأن لا يطمح، وهي تستعمل في ذلك كل الوسائل من التلاعبات الاستثمارية والمالية إلى الضخ الدعائي المنظم، والعناوين طبعا كثيرة، تذهب تارة نحو حقوق الإنسان، وتقتات تارة أخرى على النزاع المفتعل حلو صحراء المغرب، ومنذ أن زقع المغرب الاتفاق الثلاثي تتعيش هذه الدعاية على مشكلة فلسطين وقضيتها العادلة، وعلى أي تفصيل يرتبط بالعلاقات المغربية الإسرائيلية، وطبعا كل ما تنتجه معامل التحميض الدعائي الفرنسي يجتره قطيع التجمع “الجزائري-الإخواني-القومجي-اليساري”، فهم أدوات ارتضوا أن يلوكوا ما ينتج لهم من دعاية، ولا أحد منهم يكلف نفسه عناء التفكير في أن الفترة التي تلت حرب العام 1973 لم تنجح أي دولة من دول الطوق في استرجاع أراضيها بالكاد من إسرائيل، بله تحرير الأراضي الفلسطينية، سوى مصر التي تنبه رئيسها الراحل أنور السادات مبكرا إلى أهمية سلاح الدبلوماسية، ولم تنتبه سوريا إلى ذلك إلا مع مطلع التسعينيات حيث كانت تتهيأ إلى سيناريو مماثل حينما جلست على مقاعد مؤتمر مدريد، واستقبلت “وديعة رابين” الذي اغتاله أحد المتطرفين الإسرائيليين الحاقدين على أي دبلوماسية تعيد عبرها إسرائيل الأراضي العربية المحتلة، فرفض هؤلاء لأي مجهود دبلوماسي لا يختلف عن رفض مثيله يعبر عنه متطرفو إسرائيل.
وإلى حدود اللحظة ما تزال مرتفعات الجولان محتلة، ومايزال الوجود الإسرائيلي مستمرا في جنوب لبنان، فكل هلاوس حزب الله لم تُنه الاستعمار الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وما يزال هو وكل من ينتمي إلى التجمع المذكور يرددون نفس الأسطوانة، دون التفكير في أن مجال الدبلوماسية وأدواتها المختلفة بإمكانها أن تصنع الفرق سواء في أوقات السلم أو الحرب، ويمكنها أن تراكم الوقائع التي تأخذ مكانها في طاولة المفاوضات، ويمكنها أن تتحول إلى أدوات للضغط والفضح لفرض التنازلات وترتيب الموازين، وليتأمل هؤلاء قليلا في الوضع الذي كانت ستكون عليه مصر لو لم يختر رئيسها الراحل أنور السادات خيار دبلوماسية الخطوات الصغيرة، هل كانت لتعيد سيناء؟ أم كانت ماتزال إلى اليوم تواجه احتلال إسرائيل لها، بل وربما كانت ستنازعها في مياه النيل؟.. مصيبة صبية الدعاية الفرنسية أنهم يتهافتون على البرسيم ولا ينتبهون إلى الحافة القابعة خلفه.

*أستاذ باحث في العلوم السياسية

زر الذهاب إلى الأعلى