”ما تخرجش من الصف!”… حين أوقف التاريخ المحامي قبل أن يوقفه الأمن

 

 سعيد كان

في ساحةٍ مغربيةٍ تزدحمُ فيها الأصوات، وتتناثر فيها الشعارات كأحلامٍ معلّقة على حبال الغضب، وقف المحامي الجليل، حارس الصفوف، حامي النظام، يزمجر في وجه شبابٍ لا يعرفهم إلا من خلال “الفيسبوك” و”التيك توك“، يصرخ فيهم: “ما تخرجش من الصف!”، وكأن الصفّ صار عقيدة، والخروج منه كفرٌ سياسيٌّ لا يُغتفر.

كان المحامي يتحدث بلغةٍ خشبيةٍ مصقولةٍ ببلاغة الخمسينات، يلوّح بسبابته كما لو كانت عصا تأديب، يتهم شباب جيل زد بأنهم “يؤدّون عملاً مؤدى عنه”، وأنهم “أدواتٌ في يد جهاتٍ خارجية”، بينما هم يرفعون شعاراتٍ لا تحمل توقيع حزب، ولا ختم نقابة، ولا صورة زعيمٍ يبتسم من فوق.

وفيما هو يجلدهم بخطابه، ويستعرض عضلاته البلاغية، جاءت الشرطة، لا لتوقف المتظاهرين، بل لتوقفه هو. لحظةٌ ساخرةٌ كأنها مشهدٌ من مسرحيةٍ عبثية، حيث ينقلب الدور، ويصبح المدافع عن الصف، خارج الصف. 

هذه الواقعة ليست مجرد حادثة توقيف، بل هي صورةٌ مكثفةٌ لإشكاليةٍ أعمق: صراعٌ بين جيلين لا يتحدثان اللغة نفسها، ولا يحلمان بالطريقة نفسها، ولا يحتجان بالأسلوب نفسه.

جيل المحامي، جيل التنظيمات، جيل “البيان رقم واحد”، يرى في الاحتجاج فعلاً مؤطراً، مرخصاً، مؤدلجاً، لا يُمارس إلا تحت سقف الحزب، وبإذنٍ من التاريخ. أما جيل زد، فهو جيلٌ لا يعترف بالأسقف، ولا ينتظر الإذن، يخرج إلى الشارع كما يخرج إلى “اللايف”، يكتب مطالبه كما يكتب “الستوري”، يرفض أن يُختزل في لونٍ سياسي، أو يُقاس بمقاييس قديمة.

جيل المحامي يريد صفاً واحداً، رؤيةً واحدة، خطاباً واحداً، أما جيل زد، فهو فسيفساءٌ من الأصوات، لا يطلب الوحدة، بل يطالب بالاعتراف بالاختلاف.

 

لقد هرمنا في هذه اللحظة التاريخية.. نحن جيل الخطابة، جيل الميكروفون، جيل “أيها المواطنون”، نحب أن نتكلم كثيراً، أن نفسّر، أن نؤطّر، أن نعلّم. أما جيل زد، فهو لا ينتظر دروسنا، بل يطلب شيئاً واحداً فقط: أن ننصت.

أن ننصت إلى غضبه، إلى لغته الجديدة، إلى رموزه التي لا نفهمها، إلى احتجاجه الذي لا يشبه احتجاجنا. أن ننصت لا لنرد، بل لنفهم.

ربما آن الأوان أن نكفّ عن قول “ما تخرجش من الصف”، وأن نسأل أنفسنا: هل الصفّ ما زال موجوداً؟ أم أن الزمن تغيّر، والصفّ صار دائرياً، بلا بداية ولا نهاية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى