مزبار: “الطبقة المتوسطة تحتضر” وهذا تشريحٌ صريح لمرآة الاستهلاك في المغرب

حسين العياشي

قدّمت الخبيرة والباحثة سميرة مزبار، في تصريح أفردته ل”إعلام تيفي”، قراءةً غير اعتيادية للطبقة الوسطى بالمغرب، ققراءةً صريحة وحادّة لمسألة الطبقة المتوسطة في المغرب. خلاصة موقفها بسيطة وصادمة في آن: “لا يمكن الحديث بجدية عن طبقة وسطى من دون بيانات حديثة وموثوقة حول مداخيل ونفقات الأسر، ومع غياب ذلك، فإن الصورة المتداولة عن هذه الطبقة أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع، بينما تمضي البنية الاجتماعية نحو استقطاب حاد بين أقلية ميسورة وكُتلة واسعة تزداد هشاشة.

تؤكد مزبار أن التعريف المتداول للطبقة الوسطى في المغرب، لا يقوم على الدخل بل على الإنفاق، أي على نتائج بحث استهلاك الأسر. وتذكّر بأن البحث الأخير أُنجز بالتوازي مع الإحصاء العام للسكان، لكن باعتماد «عينة مرجعية» تعود لِإحصاء 2004، بما يعني، بحسبها، تجاهل التحوّلات البنيوية في البنية الديموغرافية وتوزيع السكان على التراب الوطني.

وتضيف أنّ إحصاء 2024 وضع على الطاولة أسئلة كانت متوقعة: تراجع الخصوبة، وتبدّل أنماط التنقّل، إضافة إلى الاستقرار داخل البلاد، وكذا انفجار عدد الأسر، خصوصًا الأسر الميكرو (شخص واحد أو اثنان)، وهي مؤشرات اجتماعية واقتصادية بالغة الدلالة. أمّا معطيات الهجرة فتبقى رهن نشر النتائج التفصيلية.

الدخل «المجهول».. والإنفاق بوابة الفهم

تشرح مزبار أن المغرب لا يملك، إلى اليوم، أدوات دقيقة وشفافة لقياس الدخل الحقيقي للأسر؛ لذلك تُقارب الطبقة الوسطى عبر بِنية الإنفاق:

  • هل تنخفض الكميات المستهلكة أم يتبدّل سلّم الأولويات؟

  • ما نصيب الترفيه والسفر من الميزانية؟

  • كيف تتطوّر مصاريف التعليم (خاصة الخصوصي)؟

  • وهل ما زالت الأسر قادرة على الادخار المنتظم؟

هذه الأسئلة، برأيها، لا تُجاب ببيانات مشتتة أو مؤشرات ماكرو، بل ببحث استهلاك مُحدَّث يكشف إنْ كنّا نستهلك أقل، أم بطريقة مختلفة، أم أننا توقفنا عن بعض البنود غير الأساسية.

استراتيجيات احتياطية للهجرة وضعتها الطبقة المتوسطة لضمان مفر آمن

تشير سميرة مزبار، إلى أنّ بروز ما تسميه بـ«استراتيجيات الهجرة الاحتياطية» لدى شريحة من الأسر المغربية، خصوصًا من الطبقة المتوسطة العليا، يعكس تحوّلًا عميقًا في المزاج المجتمعي. فهذه الفئات، التي كانت تُعرف تاريخيًا بقدرتها على التأقلم والاستثمار داخل البلاد، أصبحت اليوم ترى في الأفق الداخلي صورة قاتمة، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وضغط تكاليف المعيشة، وتراجع جودة الخدمات الأساسية من تعليم وصحة، ما جعلها تفقد جزءًا كبيرًا من ثقتها في قدرة الدولة على تأمين مستقبل مستقر لأبنائها.

وفي ظل هذا الإحباط، تلجأ بعض هذه الأسر إلى خطط مدروسة لضمان «موطئ قدم» في دول متقدمة، بهدف توفير مخرج آمن إذا ما استمر الوضع في التدهور. من بين أبرز هذه الخطط إرسال الحوامل للولادة بالخارج، في دول تمنح الجنسية أو الإقامة وفق مبدأ «حق الأرض»، مثل كندا والولايات المتحدة، وتسجيل الأبناء في مدارس أجنبية أو برامج تعليمية بالخارج لخلق مسار قانوني للهجرة، إضافة إلى توزيع أفراد العائلة على أكثر من بلد، لضمان تعدد الخيارات. ويُنظر إلى هذه الخطوات باعتبارها استثمارًا طويل الأمد، حتى لو كانت كلفتها المالية مرتفعة، لأنها تُمكّن العائلة من مغادرة البلاد بسرعة متى رأت أن البقاء لم يعد ممكنًا أو آمنًا.

وترى مزبار، أن هذه الظاهرة تمثل مؤشرًا خطيرًا على تآكل ثقة الطبقة الوسطى، التي تُعدّ ركيزة الاستقرار الاجتماعي، في مستقبل الوطن. فالهجرة لم تعد بالنسبة للبعض خيارًا مرتبطًا بالفقر أو البطالة المباشرة، بل أصبحت خيارًا استباقيًا حتى لدى الميسورين، مدفوعة بإحساس عام بأن الأوضاع مرشحة لمزيد من التأزم، وأن البحث عن بدائل خارجية هو السبيل الوحيد لتأمين الأمان والفرص للأجيال المقبلة.

التعليم كميزان حرارة: كُلفة ترتفع.. ونجاعة محلّ سؤال

تُقارب مزبار مفهوم الطبقة الوسطى عبر مؤشرات سلوكية: حضورٌ في الإنفاق على الترفيه والسفر، قدرة منتظمة على الادخار، وخيارات تعليمية تضمن حظوظاً في سوق الشغل. لكن الواقع يسير بالعكس:

  • التعليم الخاص، يتحوّل إلى عبء ثقيل. أسرٌ كثيرة «تُضحّي» كي تُسجّل أبناءها في مدارس خاصة، على أمل تعويض تراجعات المدرسة العمومية. والنتيجة، وفق الباحثة، نزيف مالي يراكم الإفقار بدل أن يفتح مسارات مهنية مضمونة.

  • سوق التعليم الخاص نفسه، يغدو استثماراً ريعياً لدى بعض الفاعلين، مع اعتمادٍ واسع على أطرٍ تُدرّس في القطاع العام وتُكمّل ساعاتٍ في الخاص، ما يطرح أسئلة حادّة حول المحاسبة والجودة.

  • أمّا الادخار، وهو حجر زاوية لأي «طبقة وسطى»، فتلمح المتحدثة، إلى أنه يتآكل بسرعة تحت ضغط تكاليف السكن والصحة والتعليم.

سوق الشغل: تحوّلات هيكلية و«فراغ اندماجي»

ترى مزبار، أنّ التحوّل البنيوي للاقتصاد المغربي في السنوات الأخيرة لم يعكس خلقاً صافياً لفرص الشغل؛ بل إن تدمير وظائفٍ في قطاعات تقليدية، لم تُعَوِّضه منظومات جديدة قادرة على الاستيعاب، ما يُنتج كتلةً من غير المندمجين في سوق الشغل ويُغذي ظواهر الهشاشة و«البطالة المقنّعة».

عن أرقام السياحة.. وما لا تقوله الفواتير

على الرغم من التصريحات الرسمية المتفائلة بأعداد الوافدين، تُحاجج الباحثة، بأن العدّ القائم على جوازات أجنبية لا يكفي لقياس حيوية قطاعٍ يُفترض أن يُترجم إلى إنفاق فعلي في الوجهات: “مطاعم، متاجر، نقل، ترفيه”. ملاحظاتها الميدانية تفيد بأن الإنفاق اليومي ضعيف خارج نقاط محدودة، ما يعني أنّ العدد لا يتحوّل دائماً إلى حياة اقتصادية.

استثمارات وافدة.. وعوائد مغادِرة؟

لا تُعارض مزبار جلب الاستثمارات الأجنبية، لكنها تربط جدواها بقدرتها على نقل المعرفة وتكوين الموارد البشرية وبناء سلاسل قيمة محلية. في المقابل، دعت إلى تقييم عائدات الاستثمارات المغربية في افريقيا، فتهريب الأرباح للخارج أو الاكتفاء بالامتيازات من دون أثرٍ تنموي، يعني، ببساطة بتعبيرها، إفقاراً مقنّعاً للبلد.

«لم تعد هناك طبقة وسطى»: أطروحة القَطْبَنة

في جملة مكثّفة، تقول مزبار: «لا طبقة وسطى لدينا اليوم»؛ المجتمع استقطب بين أقليّة تُظهر مؤشرات ثراء (مثل انفجار مبيعات السيارات الفاخرة بعد الجائحة) وأغلبية تضغط عليها كلفة البقاء (سكن، صحة، تعليم). وتنتقد ما تعتبره محدودية بيانات الفقر و«مهادنة» في بعض التقارير الاجتماعية، معتبرة أن سياسات الاستهداف النقدي لا تُخرج من الفقر بمنح شهرية متواضعة، وأن الأدبيات الدولية تشكّك أصلًا في نجاعة هذا النهج إنْ لم يُقرَن بإصلاحات بنيوية.

خلاصة مزبار: لا طبقة وسطى بلا قدرة على الادخار.. ولا مفهوم بلا بيانات

في تعريفها العملي، تقول مزبار إن الأسرة تُحسب ضمن «الطبقة الوسطى» عندما تتجاوز نفقاتها حدود البقاء (السكن، الصحة، التعليم)، وتملك هامشاً ثابتاً للاستهلاك الاختياري والادخار المنتظم. وبناءً عليه، فهي «مقتنعة بأننا فقدنا الطبقة الوسطى فعلياً»، وأن المجتمع يتجه إلى استقطابٍ واسع.

الحلّ من وجهة نظرها يبدأ بـسردية صادقة تُلازمها بياناتٌ محدثة: مسح شامل لاستهلاك الأسر، وقياس واقعي للدخول، ومؤشرات دقيقة على الادخار والإنفاق التعليمي والصحي والسكني، على أن يُربط هذا القياس ديموغرافيًا بإحصاء 2024 مع إتاحة المعطيات للباحثين وصنّاع القرار.

بعد ذلك، لا مهرب من إعادة تأسيس لمنظومة التعليم والتكوين المهني، واعتماد سياسات تشغيل تُولّد فرصًا نوعية، إلى جانب مقاربات اجتماعية تُوسّع القاعدة الحامية، بدل تفتيتها باستهدافات محدودة الأثر، حتى يمكن الحديث عن قاعدة اجتماعية قادرة على قيادة نمو داخلي بدل الارتهان لتقلّبات الخارج.

وبهذا، تكون الباحثة، سميرة مزبار، قد اقترحت قراءةً تُقصي التزيين اللغوي: إن كانت الطبقة الوسطى محرّك التنمية في أي اقتصاد، فمحرّكنا يختنق بين كُلفة بقاءٍ متصاعدة، وتعليمٍ لا يضمن الارتقاء، وسوقِ عملٍ لا يُنصف المهارات، وبياناتٍ لا تُسعف على القرار الرشيد. وبينما ينتظر البلد نتائج مُحدَّثة لِبحث الاستهلاك ومعطيات الهجرة في إحصاء 2024، يبقى السؤال معلّقًا: هل نستعيد طبقةً وسطى قادرة على الادخار والترقّي وصناعة الطلب الداخلي، أم نمضي في قطبين لا يلتقيان؟ في الحالتين، تُلمّح شهادة مزبار إلى أن الزمن القادم لن يرحم السياسات الرمادية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى