موسم الحصاد في تزكين ..حكاية صبر وتعاون تحت لهيب “العنصرة” (ربورتاج )

فاطمة الزهراء ايت ناصر

استيقظ محمد وزوجته فاظمة قبل بزوغ الفجر، كما جرت العادة منذ بدء موسم الحصاد. كانت رائحة الشاي تفوح من المطبخ الطيني، ومعها صوت همسات فاظمة وهي توقظ أطفالها الأربعة وتعدّ طعام الفطور: حريرة خفيفة، خبز شعير، قليل من الجبن، وتمرات وُضعت بعناية في صحن صغير.

في الخارج، كانت النجوم لا تزال تلمع في سماء “تزكين” ايت سدرات الجبل العليا تنغير، لكن محمد يعرف أن الشمس لن تتأخر كثيرًا، وأن حرارة “العنصرة” لن ترحم أحدًا. فهذه الفترة المعروفة في تقويم البوادي تبدأ من 7 يوليوز وتستمر حوالي 13 يومًا، وتُعرف بحرها المُلتهب الذي يُسرّع نضج القمح ويستعجل الناس على الحصاد.

لبست فاظمة “اقيدور “، وربطت رأسها بوشاح داكن، ورفعت سلتها على ظهرها. أما محمد فجهّز البغلة وحبال الربط، ووضع قربها قنينة ماء ملفوفة بقطعة قماش للحفاظ على برودتها وبعض من التمر، ثم خرجا سويًا نحو الحقل، حيث التقت الأسرة بجيرانهم وأقاربهم الذين جاؤوا “يعونوا”.

وسط الطريق، همست فاظمة ل”إعلام تيفي”:”هذه السنة معظم السكان لا يملكون لا حصاد ولا زرع … الفيضانات التي كانت شهر يناير وفبراير حطمت المحصول، والناس لا تملك الزرع لهذه السنة …الفيضانات أنهت ما تبقى من الجفاف”

أومأ محمد بحزن. يعرف تمامًا أن كثيرًا من الحقول بقيت جرداء هذا الموسم، وها هم الآن يعتمدون فقط على ما سلم من الماء والطمي.

في الحقل، بدأت النساء بقطف السنابل. نصفهن يجني، والنصف الآخر يجمع ويكوّم في رزم صغيرة. تخللت لحظات الصمت أهازيج “تيمناضين” وأصوات ضحك الأطفال وهم يلعبون تحت شجرة تين قريبة.

فالموسم يتزامن مع نضج الفواكه الصيفية في الواحة: العنب، المشمش، والتين، ما يخفف قليلاً من وطأة العناء ويُدخل شيئًا من الحلاوة إلى قساوة العمل.

ومع اقتراب الساعة العاشرة صباحًا، جلست فاظمة في الظل، وأخرجت من سلتها طبقًا تقليديًا أزرق تتوسطه وجبة تُبهج العين قبل المعد “تورَايْت” مصنوعة من دقيق الشعير المطهو في الفرن التقليدي، شكّلت فاظمة حفرة صغيرة في وسط العجين، ثم سكبت فوقها الزبدة البلدية الذائبة، وأضافت رشة من الزعتر الجبلي المُجفف بعناية. ما إن اختلطت المكونات حتى بدأت رائحتها تفوح في المكان، لتغمر الحقل برائحة دافئة تُشبه رائحة البيوت القديمة. جلس الجميع حول الطبق، وتناولوها بأصابعهم في هدوء وامتنان، وكأن هذه الوجبة البسيطة تلخص معنى الأرض والكرم والصبر في لقمة واحدة.

في منتصف النهار، وعندما تبدأ الشمس في إحراق الجلد وتثقل الأجساد بالعرق والتعب، تُفرش الحصائر تحت ظل شجرة تين أو في إحدى زوايا المكان، ويجتمع الصغار والكبار حول مائدة بسيطة، لكنها دافئة ومحضرة بعناية من قلب المعاناة.

غالبًا ما تكون الوجبة عبارة عن طاجين غني بالخضر الموسمية—بطاطس، جزر، وطماطم، وربما قطعة صغيرة من اللحم إن وُجدت—تُطهى على نار هادئة بحطب من شجر العرعار، ويملأ عبيرها الزقاق. وفي أيام الجمعة أو التجمعات الأكبر، يُقدَّم كسكس بالبقول والخضر، تتوسطه مرقة ساخنة تُوزَّع بسخاء، في مشهد تقليدي يعبّر عن كرم الجبل ودفء أمهاته.

وبينما يأكل الجميع، تستمر الحكايات والضحكات، وتُروى أخبار الموسم، وتُستعاد ذكريات سنوات الحصاد الماضية، في حضرة الطعام، والشاي المُنعنع، ونظرات الأطفال الذين يرقبون كل شيء بفضول وفرح.

ثم يعود الكل إلى الحقل مع ميلان الشمس نحو الغروب، ليُكملوا ما تبقى من العمل، وكأن التعب يُمحى كلما تَذوّقوا نكهة الطاجين الساخن، أو نُثارات الكسكس على أطراف الأيدي، في يوم آخر من حكاية لا تتكرر، لكنها لا تنسى.

بعد ساعات من العمل المتواصل، وصلت السنابل إلى “إنرار”، الساحة الحجرية التي تُترك فيها السنابل لتجف. لكن ما يشغل بال فاظمة الآن هو “الدرس”، فقد ارتفع ثمنه كثيرًا هذا العام، من 80 إلى 200 درهم للساعة، وهي تعلم أن المحصول القليل لن يغطي حتى الكلفة.

ورغم ذلك، لم تتوقف عن الغناء، ولم يتوقف محمد عن الضحك مع جيرانه، وكأن هذا الشعب الجبلي خلق ليقاوم، لا ليشتكي.

في طريق العودة، كانت فاظمة تحمل سلتها، ومحمد يسحب البغلة المتعبة، والأطفال يقضمون حبّات التين بمرح. الشمس تميل إلى الغروب، والعرق يجري على الجباه، لكن القلوب هادئة، مطمئنة.

هكذا يمرّ يوم من الحصاد في تزكين، حيث لا يُقاس الغنى بوفرة السنابل، بل بوفرة الصبر، والتعاون، ودفء الحياة تحت لهيب “العنصرة”.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى