هجرة الأطباء المغاربة.. عندما تعالج فرنسا أزماتها الصحية بنزيف المغرب

حسين العياشي

بينما يئنّ القطاع الصحي في المغرب تحت وطأة النقص الحاد في الأطباء والممرضين، تفتح فرنسا ذراعيها لاستقبالهم بترحاب. مفارقة مؤلمة تختصر الخلل العميق بين الشمال والجنوب، وتكشف حجم النزيف الصامت الذي يعانيه نظام صحي وصل إلى مرحلة الإنهاك.

في الوقت الذي تبحث فيه مستشفيات المغربية عن طبيب تخدير واحد لإنقاذ الأرواح، تفرش باريس السجاد الأحمر أمام ممارسين قادمين من الرباط والدار البيضاء ومراكش. هذا ما خلص إليه تقرير مطوّل لمجلة “ماريان” الفرنسية، التي وصفت المشهد بأنه “عبثي ومؤلم في آن واحد”: المغرب يكوّن أطباء.. لتستفيد منهم دول أخرى.

القصة لا تبدأ في باريس، بل في أكادير، حيث شهد مستشفى الحسن الثاني منتصف شتنبر فاجعة إنسانية بهلاك ثماني نساء حوامل بعد عمليات قيصرية. مأساة هزّت الرأي العام، وأعادت إلى الواجهة سؤالاً قديماً: إلى متى سيبقى غياب الكفاءات الطبية يكلّف الأرواح؟

الغضب الشعبي لم يتأخر. خرج المواطنون إلى الشوارع، لا فقط للمطالبة بالمحاسبة، بل للاحتجاج على واقع صحي متصدّع: أقسام طبية شبه خالية، مواعيد مؤجلة إلى أجل غير مسمّى، ومستشفيات تحوّلت إلى محطات انتظار للموت البطيء.

في كواليس كليات الطب والمستشفيات الجامعية، تتكرر عبارة واحدة: “بمجرد أن أستطيع، سأغادر”. كثيرون فعلوا ذلك فعلاً. ففرنسا، التي تبحث عن أطباء لمناطقها الريفية، فتحت الأبواب على مصراعيها للأطباء المغاربة الباحثين عن بيئة عمل أفضل وحياة أكثر استقراراً.

النتيجة واضحة وصادمة: المغرب، الذي لا يتجاوز معدل الأطباء فيه واحداً لكل 1500 نسمة، يرى أبناءه يرتدون الوزرة البيضاء في ليون أو ليل أو تولوز. هكذا يعالج الشمال عجزه، بينما يتعمق جرح الجنوب أكثر فأكثر.

تقرير ماريان لم يتردد في تسليط الضوء على ما أسماه بـ”النفاق الأوروبي الصامت”: دول الشمال تحتفي بتنوعها وكفاءاتها الدولية، في الوقت الذي تُنزف فيه أنظمة الجنوب من داخلها. والمفارقة الأشدّ أن المغرب، الذي ينفق ملايين الدراهم لتكوين هؤلاء الأطباء، يرى ثمرة استثماره تُجنى في الخارج من دون أي مقابل، في عملية هجرة للكفاءات يمكن وصفها بأنها “استعمار ناعم”.

هذه الظاهرة لم تعد مجرد تفاصيل في سجلات الهجرة المهنية، بل باتت تعبيراً عن اختلال بنيوي عالمي، حيث تُعامل العقول الجنوبية كموارد طبيعية تُستخرج وتُستهلك بعيداً عن أرضها.
بينما تُشفى المستشفيات الأوروبية، يبقى المرضى في القرى المغربية ينتظرون طبيباً… قد لا يعود أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى