تحت الارض..حين يصبح الخطر لقمة عيش في مناجم ميدلت ( ربورطاج)

فاطمة الزهراء ايت ناصر
ينزلون في صمت إلى أعماق الأرض، محوّلين جوفها إلى ساحة عملهم اليومية، حيث تُحتسب معيشتهم بقدر ما يظفرون به من حجارة ومعادن، لا تساوي غالبًا سوى بضع دراهم، بينما تُعرض حياتهم للخطر في كل لحظة.
إنهم سكان ميبلادن وأحولي، الواقعتين في أطراف مدينة ميدلت، الذين اتخذوا من الأنفاق المهجورة مصدرًا للعيش.
“كل نهار ورزقو”… حكاية عمال المناجم المهجورة في أحولي وميبلادن
في عمق جبال الأطلس الشرقي، وتحديدًا في منطقتي أحولي وميبلادن قرب مدينة ميدلت، تتكرر يوميًا مشاهد لا تراها أعين الرأي العام، لكنها تختصر مأساة اجتماعية صامتة.
هنا، في أنفاق المناجم المهجورة منذ الثمانينات، يكدح عشرات الرجال في ظروف وُصفت بأنها أشبه بالجحيم، بحثًا عن ما يسد رمقهم، دون تأمين، ولا تغطية صحية، ولا حتى أدنى مقومات الحماية.
علي، أحد هؤلاء العمال، يروي قصته بألم ظاهر ل”إعلام تيفي“: “حالتنا مزرية. نخرج كل صباح بخبز حافي، نقضي اليوم بين الحفر والبحث، أحيانًا نجد شيئًا وأحيانًا لا. شخصيًا، منذ سنتين لم أحصل على درهم واحد، بالكاد أوفر لقمة لسد الجوع.”
وأكد علي أن الحياة في هذا العالم المنسي لا ترحم من لا سند له: “الذين لديهم أبناء كبار قد يساعدونهم في تأمين الطعام، لكن من لا معين له قد ينتهي به المطاف بالتشرد أو تفكك الأسرة.”
وكشف أن عدد العاملين في هذه المناجم يفوق المئة، إن لم يكن أكثر، واصفًا أوضاعهم بأنها “كارثية”.
الواقع أشد قتامة حين يتعلق الأمر بالحوادث: “الذين يموتون بسبب الانهيارات أو الصخور الكبيرة، لا يُعوضون. زوجاتهم يتشردن، والأبناء يُتركون لمصيرهم. لا جمعيات، ولا نقابات، ولا أحد يدافع عنا.” ؛يقول علي وصوته يختنق.
في مشهد يومي يتكرر، يبيع هؤلاء العمال ما استخرجوه من معادن إلى من يحتاجها، دون ضمان أو أجر قار؛ يقول:”نعمل بلا شهرية، بلا كرامة. نكدّ مثل باقي العمال في العالم، لكن الفرق أننا نعيش على الأمل فقط.”
وأوضح علي أن هذا العمل الذي بدأ منذ الصغر، بات أشبه بـ”الإدمان”، رغم قسوته، لأنه لا وجود لفرص بديلة في هذه المنطقة المنسية.
“كل شخص يرزقه الله بما كتب له، لكن الكثيرون يقضون أسابيع وشهور دون أن يجدوا ما يطعمون به أبناءهم.”
الحكاية لا تتوقف عند الجوع فقط، بل تتعداها إلى التفكك الأسري والحرمان من التعليم. “الأطفال لا يفهمون الوضع، يريدون أن يأكلوا لحمًا، فواكه، أن يلبسوا جديدًا ويذهبوا إلى المدرسة. لكننا بالكاد نوفر لهم الخضر. نحاول أن نعطيهم 10٪ مما يحتاجون، لكن في النهاية، صحتك تذهب، وجهدك يُستنزف، والبيت يبقى فارغًا لأن الجيب فارغ.”
وسط صمت الجبال القاسية، قال بصوت خافت يكاد لا يُسمع: “أسبوع كامل من الحفر والتعب، ولم أجنِ درهمًا واحدًا”.
لم يستطع أن يواجه أسرته وهو خالي اليدين، ففضل البقاء في العزلة، بين الصخور والأنفاق، على أن يعود بخيبة إلى أعين أطفاله. لم يكن هروبًا بقدر ما كان محاولة يائسة لحفظ ما تبقى من كرامته.
سرد علي بحزن شديد قصة عامل توفي الاثنين الماضي في مناجم أحولي، نُقل إلى مستشفى الراشدية ولم تُسلّم جثته بعد لأسرته. “لا أحد يعلم كيف مات بالضبط، خدع للتشريح الطبي وزوجته لا تملك حتى حق الدفن .”
في هذا الركن المنسي من المغرب، لا تزال حياة كاملة تدور في ظلال المنجم، حياة صعبة، غير مرئية، لكنها مليئة بالألم، والمثابرة، والانتظار الذي لا يُثمر.
“الله يحسن العون”، يقول علي، وهو يعلم أن الغد لن يكون مختلفًا كثيرًا عن اليوم، لكنه، رغم كل شيء، ينهض كل صباح إلى نفس النفق، بحثًا عن حياة قد تأتي… أو لا تأتي أبدًا.
في عيد الشغل الأخير، نظم هؤلاء العمال وقفة احتجاجية أمام المركز الثقافي بميدلت، مطالبين بحقوقهم، ولكن لا جدوى من ذلك.
في زيارة قام بها أحد الزوار للمنطقة المعروفة بمناجم أحولي، كشف (م.ف) عن تفاصيل صادمة ترتبط بواقع الاستغلال، وغياب السلامة، والمعاناة اليومية التي يعيشها أبناء المنطقة في سبيل كسب لقمة العيش.
منجم للمعاناة.. عنوانه “رزق من حجر”
في زيارة قام بها أحد الزوار للمنطقة المعروفة بمناجم أحولي، كشف (م.ف) عن تفاصيل صادمة ترتبط بواقع الاستغلال، وغياب السلامة، والمعاناة اليومية التي يعيشها أبناء المنطقة في سبيل كسب لقمة العيش.
أكد (م.ف) أن عددًا من شباب المدن الاخرى يقصدون هذه المناطق لاستخراج المعادن، دون دراية كافية بخبايا هذه المناجم أو خطورتها.
وقال ل”إعلام تيفي“: “لا يعرفون الممرات الهشة، ولا التوقيت الذي قد ينهار فيه المنجم، ولا حتى الطرق الآمنة للانسحاب وقت الخطر، على عكس أبناء المنطقة الذين يميزون جيدًا علامات الخطر ويعرفون كيف يتفادون الكوارث.”
وأشار إلى أن سكان المنطقة يستعملون مصطلح “السيخ” للدلالة على المرحلة التي توشك فيها الأنفاق على الانهيار، وهي معرفة تراكمت لديهم بالتجربة والممارسة، وليست متاحة للوافدين الجدد.
وأوضح الزائر أنه خلال جولته لاحظ تواجدًا كثيفًا لسيارات الأجانب، مما يثير تساؤلات حول طبيعة استغلال الثروات المعدنية في ظل غياب التأطير القانوني والحماية للسكان المحليين.
منجم أحولي، حسب شهادته، يبعد 12 كيلومترًا عن المنجم الرئيسي، وهي مسافة يقطعها أبناء المنطقة سيرًا على الأقدام بشكل شبه يومي، في رحلة قد تثمر شيئًا، وقد تنتهي بلا نتيجة.
للوصول إلى تلك المناجم المنسية، كان لا بد من صعود جبلٍ شاهق والسير في منعرجاته الوعرة لما يقارب ساعة ونصف، رحلة تختبر القدرة والصبر، وكأنها مدخل إلى عالم آخر.
هناك، في العراء، تتناثر أكواخ مهترئة أقامها العمال بوسائل بسيطة، تحيط بحفرة عميقة يتجاوز عمقها الثلاثين مترًا، خلّفتها الشركات الفرنسية التي غادرت منذ سبعينات القرن الماضي، لكنها تركت وراءها جرحًا مفتوحًا في قلب الجبل.
قرب تلك الهوة المخيفة التي يخترقها عمودان حديديان، تتناثر آبار صغيرة يتسلل إليها العمال بأجسادهم الهزيلة، يطاردون بقايا المعدن بين الصخور. وفي عمق الجبل كهف ضيق بعلو إنسان، ما إن تدخله وتترك خلفك ضجيج محركات الحفر، حتى تحتضنك برودة لاذعة تنفذ إلى عظامك، رغم أن الشمس في الخارج تحرق الأرض بحرارة تلامس الأربعين درجة.
إنه عالم من صمتٍ ثقيل، تتحدث فيه الحجارة أكثر من البشر، ويصير فيه العرق طريقًا إلى البقاء.
“الطرق المؤدية إلى المناجم في وضعية كارثية، باستثناء قنطرة تم ترميمها، أما الباقي فهو خطر مستمر يهدد حياة العمال ويزيد من معاناة الساكنة،” يقول (م.ف) بمرارة.
وأنهى تصريحه بجملة تلخص المشهد بأكمله: “منجم أحولي ليس فقط مكانًا لاستخراج المعادن، بل هو منجم للمعاناة، عنوانه الحقيقي: “رزق من حجر.”