الدورة الربيعية للبرلمان.. بين تصاعد الجدل الرقابي واختبار التوازن بين السلط (ملف)

إعلام تيفي-ملف
اقترب مجلس النواب من اسدال الستار على الدورة الربيعية من السنة التشريعية 2024-2025، والتي عُقدت وسط سياق اجتماعي واقتصادي متوتر، وانتظارات واسعة من المواطنين والفاعلين السياسيين.
الدورة، التي افتُتحت يوم الجمعة 11 أبريل 2025، طبقا للفصل 65 من الدستور، وُصفت من طرف عدد من المتابعين بأنها دورة “الملفات الثقيلة”، نظراً لتراكم القوانين المؤجلة من الدورة الخريفية، ومركزية قضايا حساسة مثل إصلاح أنظمة التقاعد، الحوار الاجتماعي، وارتفاع الأسعار.
ورغم ما ميّز الدورة الربيعية من نقاشات قوية وملفات مجتمعية ضاغطة، إلا أن الاخصائيين يرو أن الأداء البرلماني تأثر ببوادر حملة انتخابية مبكرة، في أفق الانتخابات التشريعية لسنة 2026.
وظهرت بوادر استثمار سياسي للمواقف والمداخلات، وحرص كل حزب على التموقع بوضوح في القضايا الخلافية، من الغلاء إلى الدعم الفلاحي، وهو ما اعتُبِر محاولة لاستباق مزاج الناخبين وتوجيهه.
ملتمس الرقابة.. أداة دستورية تصطدم بواقع سياسي مركب
نجوى القاسمي
في ختام الدورة الربيعية للبرلمان، عاد إلى الواجهة ملف ملتمس الرقابة الذي لوّحت به المعارضة دون أن ترفعه رسميا، وسط خلافات سياسية وتنظيمية داخلية حالت دون تبلور المبادرة إلى مستوى مؤسساتي واضح.
فرغم أن الفصل 105 من الدستور يمنح مجلس النواب حق التصويت على ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة، إلا أن تحقيق هذا الخيار يظل مشروطا بتوقيع خُمس أعضاء المجلس على الأقل، أي ما يعادل 79 نائبًا، وهو عدد متاح نظريًا أمام المعارضة.
أبليل: معارضة فسيفسائية تعيق الفعل السياسي الجماعي
ترى الباحثة في القانون الدستوري والعلوم السياسية مريم أبليل أن فشل المعارضة في تقديم الملتمس لا يتعلق فقط بخلل تقني، بل يعكس أزمة بنيوية أعمق.
وقالت ل”إعلام تيفي” إن كل حزب داخل المعارضة يتحرك بناءً على خلفيته السياسية والتاريخية، وهو ما يُصعب التنسيق حول أي مبادرة استراتيجية”.
وأضافت أن العدالة والتنمية لا يزال تحت وقع صدمة الانتخابات، بعدما انهار من 125 إلى 13 مقعدًا، وهو ما جعله يكتفي بدور محدود كمجموعة نيابية صغيرة، فيما يراهن الفريق الاشتراكي على شرعية تاريخية لم تعد كافية لقيادة معارضة منقسمة على ذاتها.
مريم ابليل
“غياب قيادة واضحة ومشروع موحد يجعل من الصعب تشكيل جبهة رقابية فعالة.”
وسجلت أبليل أن المعارضة حاولت في بداية الولاية تقديم حصيلة موحدة، لكن التجربة لم تتكرر، بعد أن عادت الكتل البرلمانية إلى العمل الفردي، وعقد الندوات الخاصة، ما عمّق التباعد الإيديولوجي والسياسي بينها.
وشددت أبليل على أن الشخصنة والصراعات القديمة زادت من تشرذم المعارضة، مشيرة إلى أن غياب قيادة واضحة ومشروع موحد يجعل من الصعب تشكيل جبهة رقابية فعالة. واعتبرت أن التعدد داخل المعارضة أمر صحي، لكن التنافس الداخلي والانقسام يقوضان البناء الديمقراطي.
الغالي: المعارضة تمتلك الأرقام لكنها تفتقر إلى النفوذ السياسي
في تصريح لـ”إعلام تيفي”، أوضح الدكتور محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض، أن ملتمس الرقابة يجب قراءته من زاويتين، تقنية وسياسية.
فعلى المستوى التقني، أشار الغالي إلى أن المعارضة تمتلك 126 مقعدا من أصل 395، ما يمنحها القدرة على تقديم الملتمس بسهولة، شريطة التنسيق بين الاتحاد الاشتراكي، الحركة الشعبية، التقدم والاشتراكية، وربما الاتحاد الدستوري.
لكن في المقابل، اعتبر الغالي أن إسقاط الحكومة عبر هذا المسار يبدو شبه مستحيل، بسبب الحاجة إلى 198 صوتًا على الأقل، وهو سقف لا يمكن للمعارضة بلوغه في ظل هيمنة الأغلبية التي تتوفر على نحو 260 مقعدًا.
أما من الزاوية السياسية، فأكد الغالي أن غياب التجانس في الخطاب بين مكونات المعارضة يجعل من الملتمس أداة رمزية أكثر منها عملية، مشيرًا إلى أنه “تحريك للمياه الراكدة” يمكن أن تستغله بعض الأحزاب في سياق التفاوض أو المناورة السياسية داخل البرلمان.
محمد الغالي
“ملتمس الرقابة تحريك للمياه الراكدة أكثر منه أداة لإسقاط الحكومة.”
مع نهاية الدورة الربيعية، تتأكد الهيمنة التشريعية للأغلبية الحكومية، التي مضت في تمرير مشاريعها في ظل غياب معارضة منسجمة وقوية.
رغم المبادرات الرمزية، لم تتمكن المعارضة من تقديم مبادرة رقابية مكتملة، واكتفت بتصريحات وتحركات إعلامية غير مؤثرة داخل البرلمان.
في المقابل، واصلت الأغلبية عملها بأريحية عددية وتنظيمية، في مشهد يعيد إنتاج خلل التوازن المؤسساتي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
“قانون الإضراب”.. تراجع عن المكتسبات
إيمان أوكريش
بعد أكثر من ستين سنة من التنصيص على الحق في الإضراب في أول دستور مغربي سنة 1962، خرج القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بممارسة هذا الحق إلى حيز الوجود، بعد مسار تشريعي طويل.
وبدأ هذا المسار بمصادقة مجلس النواب، قبل أن يحال على مجلس المستشارين، الذي صادق عليه بدوره بالأغلبية بعد إدخال تعديلات وإعادة ترتيب بعض مواده، حيث حظي المشروع بـ41 صوتا مؤيدا مقابل 7 معارضين، دون تسجيل أي امتناع عن التصويت.
ومع إتمام الغرفة الثانية لمهمتها، عاد المشروع مجددا إلى مجلس النواب، ليتم الحسم فيه نهائيا قبل إحالته على المحكمة الدستورية التي أقرت مطابقته للدستور، وفقا للفصل 132 من الوثيقة الدستورية.
ليخرج رئيس الحكومة عزيز أخنوش، في ما بعد، ويقول إن المصادقة على هذا المشروع “لحظة تاريخية”، مشيرا إلى أن القانون طال انتظاره منذ عقود، مبرزا أن حكومته أجرت 70 اجتماعا في ظرف 22 شهرا، منها 40 لقاء مع النقابات والفرق البرلمانية، للوصول إلى صيغة جديدة وصفها بأنها “أفضل بكثير من نسخة 2016”.
رفض نقابي واسع
رغم المصادقة على القانون، لم تهدأ جبهة النقابات. فقد واجه القانون رفضا قويا من مركزيات نقابية، اعتبرته “قانونا تكبيليا” يقيد حقا دستوريا وكونيا، هو الحق في الإضراب.
وكانت قد أعلنت كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، والمنظمة الديمقراطية للشغل، وفيدرالية النقابات الديمقراطية، عن خوض إضراب وطني عام يوم 5 فبراير، احتجاجا على تمرير المشروع.
وقالت النقابات إن المشروع تم تمريره بـ”منطق الأغلبية العددية” وخارج منهجية التفاوض الجاد، محملة الحكومة مسؤولية “الاحتقان الاجتماعي”.
ووصفت النقابات، حينها، أن الإضراب العام كان “ناجحا بكل المقاييس”. ووفق بلاغاتها، فإن نسبة المشاركة تجاوزت 80% على المستوى الوطني، وسجلت نسب مرتفعة جدا في قطاعات المالية، التعليم، الصحة، الأبناك، النقل، الفوسفاط والموانئ، حيث بلغت نسبة المشاركة 98% في هذا الأخير بحسب معطيات من داخل الاتحاد الوطني للشغل.
وكان قد أكد الاتحاد المغربي للشغل، الذي اختار تمديد الإضراب ليومين، أن نسبة الانخراط في اليوم الأول من الإضراب بلغت حوالي 84.9%، مبرزة أن التعبئة شملت كل جهات وأقاليم المملكة.
وبينما وصفت الحكومة هذا القانون بأنه “ضمان للاستقرار القانوني”، تصر النقابات على أنه يشكل تهديدا مباشرا للمكتسبات الاجتماعية.
قانون الإضراب في خدمة “الباطرونا”
رغم المصادقة النهائية على القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب، قوبل النص برفض واسع من طرف عدد من المركزيات النقابية، التي اعتبرته قانونا تقييديا يهدد مكتسبات نضالية ودستورية.
وفي هذا الصدد، أكد علي لطفي، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل، أن القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب، الذي صودق عليه قبل خمسة أشهر، لم يثن النقابات والحركات الاجتماعية عن ممارسة حقها الدستوري في الإضراب والاحتجاج، رغم طابعه التقييدي.
وشدد لطفي، في تصريح خص به “إعلام تيفي” على أن الهدف من هذا القانون، الذي أعده وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، كان هو ضرب العمل النقابي وإسكات صوت النقابات العمالية، خدمة لمصالح الباطرونا، وخاصة تلك التي تنتهك حقوق العمال.
علي لطفي
“القانون التنظيمي للإضراب في صيغته الحالية يُكرّس التضييق على الحريات النقابية في خرق صريح للدستور والاتفاقيات الدولية.”
وأوضح أن هذا النص التشريعي لا يزال يعد، في نظر المنظمة الديمقراطية للشغل وعدد من المركزيات، تراجعا خطيرا عن المكتسبات التي راكمتها الحركة النقابية منذ الاستقلال، وخرقا واضحا للدستور المغربي، وخاصة الفصل 29، الذي يضمن الحق في الإضراب لجميع المواطنين دون استثناء، وليس فقط للموظفين والعمال.
وأضاف أن القانون الجديد يتعارض كذلك مع الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب، كالاتفاقيتين 98 و151 لمنظمة العمل الدولية، ولا يحترم مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية كما تنص على ذلك ديباجة الدستور.
كما انتقد غياب التنصيص على دور جهاز تفتيش الشغل، وتكريس خلط بين السياسي والنقابي، في ظل غياب قانون خاص بالنقابات واستمرار الاعتماد على ظهير 1957.
وبخصوص منهجية تمرير القانون، قال لطفي إن الحكومة لجأت إلى أغلبيتها العددية دون أي مقاربة تشاركية حقيقية، ضاربة عرض الحائط التوجيهات الملكية الداعية إلى التوافق الواسع في إعداد النصوص التنظيمية، وهو ما يشكل، حسبه، خرقا للفصل 42 من الدستور، مستنكرا غياب النقاش الوطني الجاد حول مشروع القانون وفرضه بشكل أحادي من طرف الوزير الوصي.
أما بالنسبة لإمكانية الطعن في هذا القانون، فقد أشار الكاتب العام للمنظمة إلى أن الأخيرة كانت من بين الهيئات النقابية القليلة، أو الوحيدة، التي اتخذت خطوات عملية للطعن في هذا القانون، حيث تقدمت بطعن أمام المجلس الدستوري، استنادا إلى الفصل 133 من الدستور.
كما رفعت المنظمة شكاية إلى لجنة الشكاوى النقابية بمنظمة العمل الدولية بموجب المادتين 24 و25، مستندة إلى خرق هذا القانون للمواثيق الدولية التي تضمن الحريات النقابية والحق في الإضراب، وعلى رأسها الاتفاقية 87.
وختم لطفي تصريحه بالتأكيد على أن القانون في صيغته الحالية لا يكرس التوازن بين المصلحة العامة وضمان الحقوق الدستورية، بل يعكس توجها نحو التضييق على الحريات النقابية في خرق صريح للمرجعيات الدستورية والدولية.
وصمة عار في جبين الحكومة
في ظل الجدل الواسع الذي رافق تمرير قانون الإضراب داخل البرلمان، تصاعد صوت المعارضة ليعبر عن رفضه لما وصفته بـ”المنهج الأحادي” الذي تنهجه الحكومة في التعاطي مع الملفات الاجتماعية الحساسة.
واعتبرت مكونات من المعارضة أن التصويت بالأغلبية على هذا النص، دون اعتماد حوار جدي أو توافق مع النقابات، يشكل انقلابا على منطق المشاركة وتقويضا للحقوق الدستورية.
وفي السياق نفسه، اعتبرت فاطمة التامني، عن فيدرالية اليسار الديموقراطي، في تصريح خصت به “إعلام تيفي”، أن تمرير قانون الإضراب داخل البرلمان بالأغلبية البرلمانية ليس سوى دليل إضافي على أن الحكومة الحالية تتعامل مع المؤسسة التشريعية كغرفة تسجيل، تمرر عبرها مشاريع القوانين دون أدنى اعتبار لمنطق الحوار أو التوافق.
وأكدت التامني أن هذا القانون الذي “مر بصيغة أحادية ودون إشراك فعلي للنقابات أو اعتماد مقاربة تشاركية حقيقية”، يعد تراجعا خطيرا عن مكتسبات الطبقة العاملة، بل ويشكل حسب تعبيرها “إجهازا على حق دستوري أصيل”، يتمثل في حق الإضراب كوسيلة نضالية واحتجاجية لانتزاع الحقوق وصون الكرامة العمالية.
فاطمة التامني
“قانون الإضراب مر بصيغة أحادية ويُجسّد تراجعاً خطيراً عن المكتسبات، وإجهازاً على حق دستوري أصيل.”
وأشارت النائبة البرلمانية إلى أن الحوار مع النقابات لم يكن ذا جدوى، حيث عبرت هذه الأخيرة بوضوح عن رفضها القاطع لمضامين مشروع القانون، ومع ذلك أصرت الحكومة على فرض الأمر الواقع، مما يعكس توجها أحاديا لا يعير أهمية لصوت الشغيلة ولا لمطالبها العادلة.
ورغم تمرير النص، ترى التامني أن الوضع ليس طبيعيا، وأن الاحتجاجات والاعتصامات المتواصلة تعكس حجم الاستياء وسط فئات واسعة من الطبقة العاملة، كما شددت على أن الرفض الشعبي والنقابي سيظل قائما، مبرزة أن بعض النقابات بدأت بالفعل في مراسلة منظمات دولية للتنديد بالقانون والمطالبة بمراجعته.
واعتبرت البرلمانية أن هذا المسار التشريعي التراجعي يعكس بوضوح النهج الحكومي الذي يهدد الحقوق والمكتسبات الاجتماعية، مشيرة إلى أن الشهور المقبلة ستشهد تصاعدا في منسوب الغضب والاحتجاجات.
وختمت تصريحها بالتأكيد على أن قانون الإضراب، كما مر، لن يحد من صوت الاحتجاج ولا من إرادة النضال لدى الشغيلة، لكنه سيظل وصمة عار في سجل حكومة اختارت أن تواجه الحقوق بالإجهاز لا بالحوار.
مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية في المغرب
سلمى الحدادي
يُعتبر قانون المسطرة الجنائية من الركائز الأساسية التي تقوم عليها دولة القانون، حيث يحدد القواعد المنظمة للبحث والتحقيق والمحاكمة في القضايا الجنائية.
وتكمن أهمية هذا القانون في كونه يحدد العلاقة بين أجهزة إنفاذ القانون من جهة، والمواطنين – وخاصة المتهمين – من جهة أخرى، كما يرسم حدود السلطة القضائية والضمانات التي يتمتع بها الأفراد في مواجهة تعسف السلطة.
في المغرب، يندرج مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية ضمن دينامية تشريعية متواصلة تسعى إلى مواءمة النصوص القانونية مع روح ومبادئ دستور 2011، الذي نص بوضوح على مبادئ كبرى، من بينها احترام حقوق الإنسان، تقوية استقلالية القضاء، وتكريس ضمانات المحاكمة العادلة.
غير أن هذا المشروع، الذي تمت صياغته تحت رقم 03.23، لم يكن محط إجماع بين مختلف الفاعلين، إذ قوبل بترحيب حذر من طرف بعض الأطراف، وانتقادات لاذعة من أطراف أخرى، خاصة هيئة المحامين وبعض المنظمات الحقوقية، التي اعتبرت أن التعديلات المقترحة تعزز من هيمنة النيابة العامة وتُقيد دور الدفاع، بدل أن توسع من دائرة الحقوق والضمانات. ومن هنا تنبع أهمية هذا البحث، الذي يسعى إلى تحليل أبعاد هذا المشروع، ورصد خلفياته، واستجلاء مواقف الأطراف المتدخلة، في أفق تقييم مدى استجابته لتطلعات دولة الحق والقانون.
2. خلفية الإصلاح وأهدافه المعلنة
يرتبط مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية بسياقات سياسية ودستورية وتشريعية متعددة. فمنذ اعتماد دستور 2011، وما حمله من مستجدات جوهرية في ما يتعلق بحقوق الأفراد ومبدأ فصل السلط وضمان المحاكمة العادلة، بدأت تتعالى الأصوات المطالِبة بتحيين مجموعة من القوانين التي ظلت وفية لمنطق تقليدي لم يعد يستجيب للمعايير الدولية.
وفي هذا السياق، برزت الحاجة الماسة إلى مراجعة قانون المسطرة الجنائية الذي يعود إلى سنة 2002، والذي رغم بعض التعديلات الطفيفة، ظل غير قادر على مواكبة التحولات العميقة التي يعرفها النظام القضائي المغربي.
من الناحية الرسمية، قدمت وزارة العدل مشروع القانون رقم 03.23 باعتباره تتويجاً لمسار طويل من المشاورات والنقاشات مع عدد من المؤسسات الدستورية، من بينها رئاسة النيابة العامة، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وعدد من الفاعلين في الحقل القانوني.
وصرّح وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، أن هذا المشروع يمثل “جوهر الديمقراطية”، باعتباره يروم إقرار توازن أكبر بين السلط، وتعزيز حماية الحريات، وتوفير عدالة جنائية أكثر نجاعة. كما تم تقديم المشروع كخطوة أساسية في إصلاح السياسة الجنائية برمتها، انسجاماً مع التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان.
عبد اللطيف وهبي
“مشروع المسطرة الجنائية يمثل جوهر الديمقراطية، ويهدف إلى تعزيز التوازن بين السلط وحماية الحريات.”
لكن بالرغم من هذه الأهداف المعلنة، فإن قراءة تفصيلية لمضامين المشروع، واستحضار مواقف المهنيين، يُظهران أن التعديلات المقترحة لا تخلو من اختلالات هيكلية تضعف فلسفة المشروع وتُفرغه من بعده الحقوقي.
3. الفلسفة القانونية الجديدة: بين المرجعية الوضعية والدينية
من أبرز الإشكالات التي أثارها النقاش حول هذا المشروع، هو طبيعة المرجعية التي يجب أن يستند إليها النص القانوني، خاصة في ديباجته.
فقد أثار نواب من حزب العدالة والتنمية مسألة غياب الإشارة الصريحة إلى المرجعية الإسلامية، وهو ما اعتبروه تقصيراً في احترام الثوابت الوطنية. غير أن وزير العدل عبد اللطيف وهبي ردّ على ذلك بالقول إن “الدين يحدد القيم العامة مثل العدل والحق والحرام والحلال، لكن المساطر القانونية تبقى وضعية وتخضع لاجتهاد البشر”.
هذا التصور يعكس توجهاً عقلانياً في التشريع، يُميز بين المبادئ العليا للدين، والتي تُلهم الفلسفة العامة للقانون، وبين الإجراءات العملية التي ينبغي أن تستجيب للواقع المتغير وتُصاغ بلغة قانونية حديثة. كما أن هذا الموقف يُحيل إلى قناعة مفادها أن القانون يجب أن يكون محايداً دينياً في مستواه الإجرائي، حتى لا يُقيد الاجتهاد القانوني ويُدخل المنظومة التشريعية في دوامة التأويلات الفقهية.
لكن هذا الطرح، وإن كان منطقياً في سياق دولة مدنية، فإنه يثير في الآن ذاته نقاشاً مجتمعياً أعمق حول هوية التشريع، ومدى التوفيق بين البُعد الإسلامي والحداثي في إنتاج القواعد القانونية. وهو نقاش مشروع، لكن لا ينبغي أن يحجب الأسئلة الحقيقية حول مضمون النصوص وضماناتها الحقوقية.
أبرز التعديلات التي جاء بها مشروع قانون المسطرة الجنائية
جاء مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية بمجموعة من المقتضيات الجديدة التي تروم تجويد المسطرة الجنائية وتحيينها، في ضوء المتغيرات التي عرفتها المنظومة القانونية الوطنية والدولية. وقد همّت هذه التعديلات عدة محاور أساسية، نُجملها في ما يلي:
1. إعادة تنظيم الحراسة النظرية
من بين أبرز التعديلات، تلك التي تتعلق بشروط ومدة الحراسة النظرية، حيث جاء المشروع بمحاولة لضبط هذه المرحلة الحساسة، من خلال:
إلزام الضابطة القضائية بإشعار العائلة فور وضع المشتبه فيه تحت الحراسة النظرية.
التقييد بمدة أقصاها 48 ساعة، قابلة للتمديد بإذن من النيابة العامة، مع اشتراط تعليل التمديد.
التأكيد على ضرورة احترام كرامة الموقوف وتوثيق كافة الإجراءات تحت إشراف النيابة العامة.
ومع ذلك، سجلت عدة جهات مهنية وحقوقية أن هذه المقتضيات لا تزال غير كافية، بسبب غياب التنصيص الصريح على توثيق الاستنطاق بالصوت والصورة، وتقييد حضور المحامي في هذه المرحلة.
2. التعديلات المتعلقة بحق الدفاع
رغم التنصيص على بعض المقتضيات العامة بخصوص حضور المحامي، فإن المشروع لم يكرّس بشكل قوي وصريح:
حق المعتقل في الاتصال بمحاميه منذ اللحظة الأولى للاعتقال.
حق المحامي في الحضور خلال جميع مراحل البحث التمهيدي.
حق الاطلاع على المحاضر قبل توقيعها من طرف المشتبه فيه.
حق زيارة المعتقل دون عراقيل إدارية أو تقييد زمني صارم
كما أن التعديلات حافظت على منطق الترخيص بدل الإلزام، مما يُضعف من القوة القانونية لضمانة الدفاع.
3. التنصيص على تدابير خاصة بالنساء وضحايا العنف
جاء المشروع بمقتضيات تهم فئة النساء، من بينها:
إحداث تدابير حمائية لفائدة النساء ضحايا العنف، مثل الاستماع في أماكن ملائمة وضمان السرية.
تسريع إجراءات الحماية بالنسبة للمشتكيات في قضايا العنف الأسري.
التنصيص على إمكانية الاستعانة بخدمات الترجمة والإرشاد الاجتماعي والنفسي أثناء التحقيق.
لكن هذه التدابير لم تُرفق بمنظومة متكاملة لتنفيذها، ما يجعلها في نظر البعض نية تشريعية غير مكتملة التنفيذ المؤسساتي.
4. توسيع نطاق المراقبة القضائية كبديل للاعتقال الاحتياطي
من مستجدات المشروع، التنصيص على آليات جديدة لتقليص اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي من خلال:
توسيع حالات اللجوء إلى المراقبة القضائية بديلاً عن الاعتقال.
إمكانية إخضاع المتهمين لمراقبة تقنية، مثل السوار الإلكتروني (رغم غياب التفصيل حول آليات التنفيذ).
إعطاء سلطة تقديرية أوسع لقضاة التحقيق في اللجوء للبدائل.
لكن، ورغم هذه النية التشريعية، ظل المشروع في نظر العديد من المتابعين متأثراً بالمقاربة الزجرية، حيث لم يجعل من المراقبة القضائية قاعدة، بل استثناء
5. التنصيص على جزاءات إجرائية
في محاولة لضبط مسار المحاكمة، أقر المشروع إدراج جزاءات إجرائية عند ارتكاب خروقات قانونية تمس بحقوق المتهم، من قبيل:
بطلان المحاضر عند المساس الجسيم بحق الدفاع أو خرق قواعد الحراسة النظرية.
بطلان إجراءات التحقيق إذا ثبتت مخالفات قانونية جوهرية.
لكن النص لم يوضح بدقة الحالات التي تُعتبر خرقاً جسيماً، ما يُبقي الأمر في يد سلطة تقديرية واسعة للقاضي.
6. التعامل مع الجرائم الرقمية والأدلة الإلكترونية
سعى المشروع لمواكبة تطور الجريمة في العالم الرقمي، فنصّ على:
إمكانية استخدام الأدلة الرقمية كوسائل إثبات، مع مراعاة شروط السلامة التقنية.
توسيع صلاحيات الشرطة القضائية في تتبع الجرائم المرتكبة عبر الإنترنت.
غير أن العديد من المهنيين لاحظوا أن النص لا يُحدد بوضوح شروط قبول الأدلة الرقمية، ما قد يُعرضها للطعن، ويجعل ضمانات حقوق المتقاضين في هذا الباب ضعيفة.
7. تغييب أدوار المجتمع المدني
رغم دسترة أدوار المجتمع المدني في دستور 2011، رفض المشروع إعطاء الجمعيات الحق في تقديم شكايات ضد جرائم الفساد أمام النيابة العامة، وهو ما أثار انتقادات واسعة، خاصة من الفرق البرلمانية ذات التوجه الحقوقي.
فقد طالب المستشار خالد سطي بتعديل المادتين 3 و7 لمنح الجمعيات هذا الدور، لكنه قوبل بالرفض، ما اعتُبر نكوصاً عن الالتزامات الدولية للمغرب في مجال محاربة الفساد وتوسيع أدوار التبليغ والحماية.
موقف الدفاع: نقد جذري من داخل الجسم المهني
اعتبرت هيئة الدفاع، ممثلة في شخص النقيب عبد الرحيم الجامعي، أن المشروع يمس في جوهره فلسفة المحاكمة العادلة، وينتقص من دور المحامي كمؤسسة دستورية مستقلة.
وفي مرافعة مطولة، أكد الجامعي أن المشروع لا يعترف للدفاع بمكانته الحقيقية، بل يُقيده ويُهمشه عبر مجموعة من المقتضيات:
عدم السماح للمحامي بالحضور مع موكله أثناء الاستنطاق الأولي.
تقييد حقه في الاطلاع على الملف في المراحل الأولى من البحث.
إلزامه بالحصول على إذن مكتوب لزيارة موكله، بدل مجرد ترخيص.
تحديد مدة قصيرة للزيارة (نصف ساعة)، وترك إمكانية تأجيلها بيد ضابط الشرطة.
وخلص النقيب إلى أن المشروع يسير “عكس التيار الحقوقي”، ويمثل “تراجعاً خطيراً عن مكتسبات دستور 2011″، ويُفرغ المسطرة من بعدها الإنساني، ويعكس “نظرة سياسية متوجسة من المحاماة”، بدل اعتبارها شريكاً في تحقيق العدالة.
إشكالية فصل السلط واستقلالية القضاء
أحد المحاور الجدلية التي أثارها المشروع، يتعلق بالعلاقة بين السلط، وخاصة بين وزارة العدل، والنيابة العامة، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية. فقد أكد الوزير وهبي أن مبدأ “فصل السلط وليس انفصامها” يقتضي أن لا يُطلب رأي القضاة في نصوص تشريعية قد يطبقونها لاحقاً، حفاظاً على استقلاليتهم.
في المقابل، دعا البعض إلى مزيد من التشاور والتنسيق، معتبرين أن إقصاء السلطة القضائية من النقاش التشريعي قد يؤدي إلى إنتاج نصوص غير قابلة للتنزيل الواقعي.
هذا النقاش يُبرز أحد التحديات الكبرى التي تواجه الإصلاحات القانونية في المغرب، وهو كيفية بناء توازن دقيق بين السلطات، دون خضوع القضاء للتشريع التنفيذي، ودون أن يُستخدم مبدأ الاستقلالية كذريعة لإقصاء النقاش المؤسساتي والتشاركي.
التعديلات البرلمانية بين الانفتاح التشريعي واستمرار التحفظات
أثناء مناقشة مشروع قانون المسطرة الجنائية داخل مجلس المستشارين، تم تسجيل تجاوب نسبي من طرف وزارة العدل مع التعديلات المقدّمة من مختلف الفرق البرلمانية، وهو ما اعتُبر مؤشراً إيجابياً على انفتاح النقاش التشريعي، وسعي المؤسسة الحكومية إلى بناء توافقات موسعة.
وفي هذا السياق، صرّح المستشار البرلماني خالد سطي، عن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، بأن “النسخة المصادق عليها أفضل من النسخة الأولى، خصوصاً بعدما تم قبول تعديلات مهمة منها ما هو جوهري”، مشيراً إلى أن ذلك تحقق بفضل تفاعل وزارة العدل وتشكيل لجنة منبثقة عن لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان لإعداد تعديلات توافقية، شارك فيها ممثلو مختلف المكونات السياسية.
خالد سطي
“النسخة المصادق عليها من مشروع المسطرة الجنائية أفضل من النسخة الأولى بعد قبول تعديلات جوهرية، لكن المشروع لا يزال يعاني من نواقص تمس جوهر العدالة الجنائية.”
غير أن هذا الانفتاح، وفق ذات المصدر، لم يُلغِ دواعي التحفّظ والتصويت ضد المشروع في صيغته النهائية. فالاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، الذي عبّر عن موقفه خلال الجلسة التشريعية، اعتبر أن المشروع لا يزال يعاني من نواقص تمس جوهر العدالة الجنائية. وتمثلت أبرز الاعتراضات في:
عدم تعديل المادتين 3 و7، اللتين تحُدان من حق الجمعيات في التبليغ عن الفساد وتقديم شكاوى باسم الضحايا، وهو ما اعتُبر مخالفة لروح دستور 2011 وللاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في مجال حماية المبلغين وتعزيز أدوار المجتمع المدني.
غياب التنصيص الصريح على ضمانات الدفاع، وخاصة حق المعتقل في الاتصال بمحاميه منذ لحظة الاعتقال، وهو مطلب مركزي في منظومة المحاكمة العادلة.
استمرار العمل بالحراسة النظرية دون توفير الضمانات الكافية، سواء على مستوى توثيق الاستجوابات بالصوت والصورة، أو على مستوى مراقبة مدة التمديد، ما قد يفتح الباب أمام التجاوزات.
غياب بدائل حقيقية للاعتقال الاحتياطي، واستمرار اللجوء إليه بشكل مفرط، رغم ما يُشكله من ضغط على المؤسسات السجنية، وانعكاسات سلبية على قرينة البراءة.
ضعف آليات حماية الشهود والمبلغين عن الجرائم، وهو ما ينعكس سلباً على فعالية العدالة الجنائية في القضايا المتعلقة بالفساد، والإرهاب، والاتجار بالبشر.
قصور النص في معالجة الجرائم الرقمية، وضعف التنصيص على المعايير القانونية للأدلة الرقمية، ما قد يُؤثر على نجاعة التتبع القضائي في هذا المجال المتطور بسرعة.
ضعف البرامج المرتبطة بإعادة إدماج السجناء، في ظل غياب تصور إصلاحي شمولي يُمكّن العدالة الجنائية من أداء دورها الوقائي والاجتماعي، وليس الزجري فقط.
وبهذا الخصوص، يُمكن اعتبار موقف الاتحاد الوطني للشغل موقفًا يعكس تياراً داخل المؤسسة التشريعية يُطالب بإصلاح عميق يذهب أبعد من مجرد تعديل فصول تقنية، نحو إعادة بناء فلسفة جنائية تضع الإنسان في قلب الاهتمام، وتمنح الدفاع والمجتمع المدني أدواراً محورية.
في الحاجة إلى شجاعة تشريعية حقيقية
إن مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية المغربي يشكل محطة مفصلية في مسار العدالة الجنائية بالمغرب. فهو من جهة يحمل بوادر تحديث مهمة على المستوى الإجرائي والتنظيمي، لكنه من جهة أخرى يُكرس اختلالات بنيوية، أهمها تغليب المقاربة الزجرية وتهميش مؤسسة الدفاع، وهو ما يتنافى مع روح الدستور ومع التزامات المغرب الحقوقية الدولية.
ومن ثمة، فإن نجاح هذا المشروع لا يتوقف على عدد الفصول المعدّلة، بل على مدى استيعابه لتطلعات المجتمع المغربي في العدالة، والحرية، والحماية، والكرامة.
إن المطلوب اليوم هو شجاعة سياسية وتشريعية تنبني على الحوار الحقيقي، والمشاركة الفعلية للمهنيين، من قضاة، ومحامين، وجمعيات حقوقية. فإصلاح العدالة لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا إذا استوعب الجميع، ووضع الإنسان في صلب اهتمامه، وجعل من الكرامة أساساً لكل إجراء قانوني.
المهام الاستطلاعية بين دور الرقابة البرلمانية ومطلب المحاسبة
فاطمة الزهراء ايت ناصر
في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، يبرز دور المهام الاستطلاعية البرلمانية كضرورة ديمقراطية لتعزيز الرقابة والمساءلة، خصوصًا في ظل ما تعرفه بعض القطاعات الحيوية من اختلالات تؤثر بشكل مباشر على معيش المواطنين.
وأعاد الجدل حول استيراد اللحوم الحمراء النقاش حول جدوى هذه الآلية، ومدى قدرة البرلمان على تفعيل أدوات رقابية حقيقية تضمن الشفافية وتحمي الأمن الغذائي الوطني.
في هذا الصدد، أكد جمال كريمي بنشقرون، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، أن اللجوء إلى المهام الاستطلاعية في البرلمان المغربي بات ضرورة ديمقراطية لمواجهة اختلالات العمل الحكومي، مشددًا على أن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية الراهنة تتطلب أكثر من مجرد متابعة شكلية، بل تحتاج إلى محاسبة فعلية للحكومة على تعهداتها والتزاماتها.
وأوضح بنشقرون ل”إعلام تيفي” أن الأنظمة الديمقراطية التي تحترم نفسها لا تكتفي بطرح الملفات داخل البرلمان، بل تعتمد أدوات رقابية قوية، منها المهام الاستطلاعية ولجان تقصي الحقائق، مشيرًا إلى أن الحكومة الحالية أخفقت في معالجة عدد من القضايا المجتمعية الحيوية، وعلى رأسها الأمن الغذائي وملف اللحوم الحمراء.
وكشف المتحدث أن “المهمة الاستطلاعية التي قام بها البرلمان حول ملف استيراد المواشي واللحوم الحمراء، تأتي بعد ما أثارته من جدل واسع في الشارع المغربي، نتيجة ما وصفه بـ’الاختلالات العميقة’ التي تمس بشكل مباشر معيش المواطن المغربي وأمنه الغذائي”.
جمال كريمي بنشقرون
“الوضعية الاجتماعية والاقتصادية تستدعي تفعيل مهام استطلاعية ومساءلة حقيقية للحكومة، وملف اللحوم الحمراء يكشف اختلالات تستوجب لجنة تقصي الحقائق.”
وأضاف أن ما يعيشه المغرب اليوم من ندرة غير مسبوقة في السلالات المحلية وتراجع حاد في الثروة الحيوانية يهدد الفلاحة الوطنية برمتها.
واعتبر أن ما وقع في هذا الملف يستدعي تفعيل لجنة تقصي الحقائق، لما لها من صلاحيات قانونية أكبر، من بينها إلزام الجهات المعنية بالحضور، وتقديم المعطيات والوثائق، وربما محاسبة المتورطين لاحقًا أمام القضاء، إذا ثبت وجود تجاوزات أو تلاعبات.
وأشار بنشقرون إلى أن الوضع الاجتماعي المتأزم، وارتفاع الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، كلها مؤشرات تدعو إلى مساءلة الحكومة عن خياراتها، خصوصًا في المجال الفلاحي، الذي عانى من سياسات استنزفت الموارد المائية وفضّلت التصدير المكثف على حساب تلبية الحاجيات الداخلية.
وأوضح أن هجرة الفلاحين نحو المدن وتدهور وضعهم المعيشي، يبين حجم الإخفاق في تدبير القطاع، مطالبًا الحكومة ووزارة الفلاحة باتخاذ إجراءات استعجالية لحماية الكسابين، ودعم الإنتاج الوطني، وإنعاش الثروة الحيوانية.
ودعا القيادي في حزب التقدم والاشتراكية البرلمان إلى المضي قدمًا في تفعيل المساءلة الحقيقية، سواء عبر المهام الاستطلاعية أو من خلال تقديم ملتمس الرقابة، “إذا ما ثبت أن الحكومة أخلّت بالتزاماتها وتسببت في تعميق معاناة المواطنات والمواطنين”.
وفي خضم الجدل المتصاعد حول ملف استيراد الأغنام واللحوم الحمراء، الذي زاد اشتعالًا بعد تصريحات متضاربة من داخل الأغلبية الحكومية، تقدمت هذه الأخيرة بمقترح لتنظيم مهمة استطلاعية برلمانية تهدف إلى تقييم الإجراءات المتخذة لدعم عمليات الاستيراد وتتبّع مدى نجاعة البرامج المعتمدة في هذا الشأن.
هذه الخطوة جاءت كرد على تحرك موازي قادته فرق المعارضة داخل مجلس النواب، والتي طالبت بتشكيل لجنة تقصي الحقائق بشأن الموضوع نفسه، بدعم من كل من الفريق الحركي، وفريق التقدم والاشتراكية، ومجموعة العدالة والتنمية، إضافة إلى الفريق الاشتراكي الذي التحق لاحقًا بالمبادرة.
ولتوضيح الفارق بين المهام الاستطلاعية ولجان تقصي الحقائق، أبرز محمد وبدة، الباحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري، في تصريح خص به موقع “إعلام تيفي”، أن المادة 107 من النظام الداخلي لمجلس النواب تنص على إمكانية تشكيل لجان برلمانية لمهام استطلاعية مؤقتة تتناول مواضيع مرتبطة بتطبيق نصوص تشريعية أو قضايا مجتمعية.
وأوضح أن المهام الاستطلاعية تُعد أداة من أدوات الرقابة البرلمانية، تُمارَس بالتوافق بين مكتب مجلس النواب ومكتب اللجنة المعنية ورئيسها، إلى جانب رئيس الفريق النيابي أو ثلث أعضاء اللجنة. وتُحدَّد تركيبتها بقرار من المكتب يشمل عدد الأعضاء، والذي يجب ألا يقل عن عضوين ولا يتجاوز 13 نائبًا.
أما بالنسبة للجان تقصي الحقائق، فيؤطرها القانون التنظيمي 85.13، انسجامًا مع مقتضيات الفصل 67 من الدستور، ويتم إحداثها بطلب من الملك أو ثلثي أعضاء إحدى غرفتي البرلمان. وتكمن وظيفتها في جمع معطيات دقيقة حول قضايا حساسة أو حول طريقة تدبير المؤسسات والمقاولات العمومية، على أن تُحال تقاريرها على أنظار البرلمان.
وأضاف وبدة أن لجان تقصي الحقائق تتمتع بصلاحيات واسعة من حيث الإلزام بالحضور وتقديم الوثائق والمعطيات، ولها أثر أقوى من المهام الاستطلاعية التي تظل في جوهرها آلية ذات طابع إخباري واستشاري، بينما يمكن أن تفضي تقارير لجان تقصي الحقائق إلى متابعة أو محاسبة المسؤولين إذا تم التأكد من وجود اختلالات جسيمة أو فساد في تدبير ملف معين.
وبذلك، فإن التباين في مواقف الأغلبية والمعارضة لا يقتصر فقط على أدوات الرقابة البرلمانية، بل يعكس أيضًا خلافًا سياسيًا أعمق حول طريقة تدبير الحكومة لملف الأمن الغذائي، ومستقبل الفلاحة الوطنية، واستيراد المواشي، في ظل ظرفية اجتماعية واقتصادية دقيقة.
محمد وبدة:
“لجان تقصي الحقائق تتمتع بصلاحيات أقوى من المهام الاستطلاعية، وقد تفضي إلى محاسبة المسؤولين في حال ثبوت اختلالات جسيمة”.
وفي محاولة لفكّ الجمود الذي عطّل انطلاق المهمة الاستطلاعية حول أثر دعم استيراد الأبقار والأغنام على الأسعار، قرر مكتب مجلس النواب إسناد رئاستها إلى فريق الحركة الشعبية، رغم كونه في صفوف المعارضة، ممثلاً في رئيسه إدريس السنتيسي.
وحسب مصادر خاصة ل “إعلام تيفي” القرار جاء بعد أسابيع من التوتر، إثر انسحاب فرق المعارضة التي اتهمت الأغلبية بـ”الهيمنة” و”ضرب مبدأ التعددية”، بعدما حاولت فرض مرشحها لرئاسة المهمة رغم أسبقية طلب المعارضة.
وبحسب المعارضة، فإن الخطوة مجرد “مناورة شكلية” لن تحل الأزمة، بل تعكس اختلالات أعمق في تدبير المهام الرقابية داخل البرلمان.
وفي الوقت الذي يُفترض أن تضمن المهام الاستطلاعية مراقبة الحكومة، تحوّلت – حسب المعارضة – إلى أداة لتلميع أدائها، في ظل ما تعتبره “تهميشًا للإنصاف والتوازن”. المعارضة لوّحت بالمطالبة بـلجنة تقصي الحقائق بدلًا من مهمة استطلاعية، معتبرة أن حجم الخروقات يفرض آلية رقابية ذات طابع إلزامي.
القضية أيضًا أخذت بعدًا قانونيًا، إذ تم التنبيه إلى مخالفة المادة 143 من النظام الداخلي للمجلس، والتي تنص على أولوية الجهة الطالبة في رئاسة المهمة، وعلى ضرورة تمثيل المعارضة ضمن أجهزتها.
ويأتي هذا كله وسط اتهامات للحكومة بالفشل في تدبير ملف استيراد اللحوم وغياب الشفافية، ما يضع البرلمان أمام سؤال حاسم: هل ما زال قادرًا على ممارسة رقابة حقيقية، أم تحوّل إلى مجرد امتداد للأغلبية الحكومية؟
ختامًا، تعكس النقاشات التي طغت على الدورة الربيعية للبرلمان دينامية جديدة في ممارسة الرقابة البرلمانية، في سياق يتطلب من المؤسسة التشريعية الاضطلاع بدورها كاملاً في مساءلة السياسات العمومية، والحرص على التوازن بين السلط.
فبين مطالب بتقوية آليات المراقبة وتوسيع صلاحياتها، وانتقادات لطغيان الحسابات السياسية على العمل البرلماني، تبقى فعالية هذه الدورة رهينة بقدرة البرلمان على تجاوز الصراعات الظرفية والانتصار لقضايا المواطنين في جوهرها.