اختلاق العوز في زمن الوفرة: بين واقع السوق ودراما السوشيال ميديا

بشرى عطوشي
في زمن تُحكم فيه منصات التواصل الاجتماعي قبضتها على وعي الناس وتصوراتهم، يبرز تناقض غريب في المشهد المغربي: من جهة، تنهال علينا منشورات تدق ناقوس الخطر عن “غلاء مهول”، و”انهيار القدرة الشرائية”، و”مجتمع يوشك على المجاعة”.
ومن جهة أخرى، تكاد الأسواق الكبرى والمراكز التجارية تنفجر من شدة الاكتظاظ، ومحلات الحلويات الفاخرة تسجل طوابير طويلة، والمطاعم الراقية تشهد حجوزات أسبوعية مسبقة، والمهرجانات تعج بالجمهور… فما الذي يحصل بالضبط؟
لم تعد شبكات التواصل الاجتماعي فقط منصات للتعبير، بل أصبحت سوقًا ضخمة للمشاعر، وفي مقدمتها الألم والفقر والعوز. فالدراما الافتراضية تلقى رواجًا لافتًا، وتحظى بتفاعل جماهيري واسع، وتجذب جمهورًا حساسًا لأي قصة إنسانية.
هذا ما دفع بعض صُنّاع المحتوى إلى الركوب على موجة المعاناة، عبر نشر صور لأشخاص بائسين، أو تصوير مشاهد وهمية لفقر مدقع، أو افتعال أزمات معيشية لا تستند لمعطيات حقيقية.
في المقابل، من يزور الأسواق الممتدة في المدن المغربية الكبرى، كالدّار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة وأكادير، يلاحظ وفرة في السلع، تنوعًا في العلامات التجارية، وارتفاعًا في الطلب على الكماليات قبل الضروريات. خلال مواسم الأعياد، أو حتى خارجها، يسجّل تجار التجزئة أرقام معاملات قياسية، وتعرف المتاجر الكبرى حالات “نهم استهلاكي” مشابهة لما يحدث عادة قبل الكوارث الطبيعية أو أزمات الحروب.
ويكفي أن نراقب حجم الإنفاق على حفلات الزفاف الباذخة، الأسفار الداخلية والخارجية، اقتناء الهواتف الذكية الحديثة، الانخراط في مهرجانات فنية وثقافية، وتزايد الطلب على المدارس الخصوصية والسيارات الجديدة، لنكتشف أن “العوز” المزعوم لا يُترجم ميدانيًا إلى أي تراجع في الاستهلاك، بل العكس تمامًا.
وفق علماء الاجتماع، يعكس هذا التناقض حالة انفصام استهلاكي-وجداني، حيث يشعر المواطن بعدم الرضا رغم استهلاكه العالي. السبب؟ الإحساس بعدم العدالة في توزيع الثروة، المقارنة القاتلة عبر الشبكات الاجتماعية، الخوف من المستقبل في ظل خطاب إعلامي متشائم، والشعور بالضغط المجتمعي لـ”الظهور” بدل العيش الحقيقي. هذا ما يجعل الفرد يقول: “نعيش العوز”، بينما يشتري قنينة ماء بـ10 دراهم، ويدفع 200 درهم في وجبة سريعة!
لكن في خضم هذا النهم الاستهلاكي الذي يطبع المدن الكبرى، هناك ثمن يُدفع في صمت في مناطق المغرب المهمشة. المدن الصغرى والقرى والجهات المعزولة تعاني فعلاً من ضعف في البنية التحتية، قلة فرص العمل، وضعف الوصول إلى الخدمات، لكنها تُستعمل كديكور في خطابات العوز دون أن ينالها نصيب من الاستهلاك أو التنمية.
اختلاق العوز له كلفة حقيقية. فحين تُبنى السياسات العمومية على “صور إلكترونية” بدل معطيات ميدانية، يتم تضخيم مظاهر الأزمة، أو تجاهل مكامن الضعف الحقيقية. كما أن هذه الظاهرة تشوه صورة المغرب خارجيًا كمجتمع مفكك اقتصاديًا، وتحبط المستثمرين الذين يرون التناقض بين أرقام المؤسسات الرسمية وصور “الفقر المدقع”، وتضعف حسّ التضامن، لأن المواطن يشكّ في كل محتوى إنساني، ويخشى أن يكون جزءًا من حملة مفبركة.
لا ننكر وجود فئات تعيش الهشاشة والفقر في المغرب، كما هو الحال في أي مجتمع. لكن المبالغة في تصوير العوز على أنه الحالة العامة، وتحويله إلى سلعة محتوى، يُفقد المجتمع بوصلته ويشوّه النقاش الحقيقي.
المطلوب اليوم ليس إنكار الأزمة، بل فهمها في سياقها الحقيقي، والتعامل معها ببيانات دقيقة، وتوازن إنساني وأخلاقي، بدل الإثارة الرخيصة التي تحوّل الألم إلى “ترند”.