الواجب المادي للأبناء اتجاه آبائهم: بين أخلاقيات البر وضغوط التوقعات الاجتماعية

فؤاد يعقوبي*
*مختص في علم النفس الإجتماعي في السياق المغربي
في المجتمعات العربية، ينظر إلى الأبناء الذين بلغوا سن العمل على أنهم موارد مالية جديدة للأسرة. يكاد يفهم التوظيف أو البدء في الكسب على أنه تحول تلقائي في وظيفة الابن: من متعلم أو باحث عن ذاته، إلى عائل مادي مباشر، عليه أن يفي باحتياجات الأسرة بأكملها، بما فيها ما عجزت الأجيال السابقة عن تحقيقه.
هذه الظاهرة، رغم أنها تتغذى على قيم نبيلة مثل البر والعرفان، إلا أنها تتخذ من منظور علم النفس الاجتماعي منحى إشكاليا يتجاوز البعد الأخلاقي، ليصل إلى الاستغلال الرمزي والاجتماعي المقنن.
علم النفس الاجتماعي يميز بين السلوك الأخلاقي الطوعي والسلوك الناتج عن ضغط المجموعة.
فالبر، حين يُمارَس طواعية، يكون مصدرا للصحة النفسية والانتماء والرضا. لكن حين يتحول إلى واجب غير قابل للنقاش، ويترافق مع لوم خفي أو علني، وتذكير دائم بـمن رباك وعلمك، يصبح شكلا من الإكراه النفسي المقنع.
في هذا السياق، لا يكون الابن فاعلا حرا، بل ضحية لعقد غير متوازن: الأسرة تقدم الحب والرعاية في الماضي، وتطالب بالمقابل ماديا في المستقبل، بغض النظر عن واقع الابن الحالي، التزاماته، دخله، أو صحته النفسية.
من زاوية تحليلية، يخضع الأبناء العاملون لعدة أشكال من الضغط: الضغط الأسري المباشر، المتمثل في التذكير الدائم بالتضحيات، وإشعارهم بالذنب عند أي تقصير. ثم الضغط المجتمعي، حيث يُنظر إلى من ينفق على والديه على أنه بار ونبيل، ومن لا يفعل يتهم بالعقوق، دون النظر إلى السياق المادي أو النفسي. ثم يأتي الضغط الداخلي، وهو الأخطر، حيث يبرمج الابن منذ صغره على أن نجاحه ليس له وحده، بل للأسرة كلها. هذه البرمجة تشكل ما يعرف في علم النفس بـالهوية الجمعية القسرية.
النتيجة هي أن كثير من الأبناء يعيشون في صراع نفسي مزمن، بين رغبتهم في الاستقلال وتحقيق الذات، وبين خشيتهم من خيانة الهوية الصالحة اجتماعيا.
من منظور علم النفس الاجتماعي، الالتزام المادي القسري له تبعات خطيرة: أولها الاحتراق النفسي (Burnout)، حيث يتحول الابن إلى آلة عمل لتأمين تحويلات شهرية، دون وقت لنفسه، أو لتكوين أسرته الخاصة. ثانيها الشعور بالذنب المزمن، حتى عندما يقدم الدعم، يشعر أنه مقصر. ثالثها ضعف الروابط العاطفية الحقيقية، حيث تتحول العلاقة إلى علاقة مالية وتفقد بعدها الإنساني. وأخيرا، الهروب أو القطيعة: بعض الأبناء، حين يعجزون عن التوفيق بين الضغط والحياة الواقعية، يختارون الانفصال أو السفر أو الانعزال النفسي، وهو ما يُفَسَّر غالبا بشكل سطحي على أنه عقوق، بينما هو رد فعل على علاقة غير متوازنة.
لا شك أن رعاية الوالدين خلقٌ نبيل، ومطلوب دينيا وأخلاقيا. لكن العلاقات الإنسانية، حتى الأبوية، تحتاج إلى توازن. هذا ما يسميه علماء النفس بـالعلاقة الوظيفية المتكافئة، أي أن يكون العطاء مبنيا على القدرة، لا على الإكراه.
لذلك، فإن السؤال ليس: هل يجب على الابن أن ينفق على أسرته؟، بل: هل هذا الإنفاق يتم وفق قدرته الحقيقية، أم وفق تصورات عاطفية واجتماعية لا تعترف بحدوده؟
المطلوب اليوم ليس تمرد الأبناء، ولا أنانية مادية، بل تحرير البر من الضغوط. أن يكون للابن صوت، وحق في الاستقلال، لا يعني أنه ناكر للجميل. بل هو ابن ناضج، يدرك أن البر لا يكون على حساب صحته النفسية، ولا زواجه، ولا حريته، ولا مستقبله.