مشروع قانون المالية 2026 وعود اجتماعية كبرى تصطدم بواقع التنفيذ

إعلام تيفي ـ دراسة
يقدم مشروع قانون المالية المغربي لسنة 2026، كما ورد في الورقة التحليلية التي أنجزها المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، تصوراً متكاملاً لما يعرف بالدولة الاجتماعية، من خلال تركيزه على ثلاثة محاور أساسية، التعليم، الصحة، والحماية الاجتماعية.
غير أن هذا الطموح، رغم وجاهته، يطرح أسئلة جوهرية حول القدرة الفعلية على ترجمة الأهداف الاجتماعية إلى إصلاحات ملموسة تُحدث فرقاً في حياة المواطنين.
وحسب الدراسة، تبدو القطاعات الاجتماعية في صلب أولوياته، حيث تم الإعلان عن رفع الميزانيات المخصصة للتعليم والصحة بنسبة تفوق 8% مقارنة بالسنة الماضية، في محاولة لتعزيز رأس المال البشري باعتباره ركيزة للتنمية المستدامة. لكن هذه الزيادات، على أهميتها الرمزية، تبقى رهينة بمدى نجاعة التدبير وفعالية الإنفاق العمومي، خصوصا في ظل استمرار مظاهر الهدر وضعف الحكامة داخل هذين القطاعين.
في جانب الحماية الاجتماعية، يلتزم المشروع بمواصلة تعميم التأمين الإجباري عن المرض ليشمل أكثر من 88% من السكان، مع توسيع نطاق التغطية ليشمل التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل، كما يتحدث عن تطوير نظام المساعدات المباشرة للفئات الهشة، ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات تظل رهينة بمدى جاهزية البنيات الإدارية والتمويلية، إذ لا يكفي توسيع الوعاء القانوني دون ضمان جودة الخدمات واستدامة الموارد.
أما على مستوى القدرة الشرائية، فيتجه المشروع إلى مواصلة دعم أسعار المواد الأساسية والطاقة لمواجهة آثار الأزمات المناخية والاقتصادية، وهو ما يعكس رغبة الدولة في حماية المواطن من تقلبات الأسعار، غير أن هذه السياسة قد تطرح تحديات مالية على المدى المتوسط، في ظل غياب رؤية واضحة لإصلاح منظومة الدعم بشكل عادل وفعال، خاصة أن المواطن المغربي يعاني لمدة طويلة من غلاء المعيشة.
وفي الإطار الترابي، يجعل المشروع من العدالة المجالية والتنمية الترابية المتكاملة محورا رئيسيا، انسجاما مع التوجيهات الملكية الداعية إلى تجاوز النموذج التنموي التقليدي نحو نموذج يرتكز على خصوصيات الجهات وتكافؤ الفرص في توزيع الخدمات العمومية، وقد نص المشروع على إطلاق برامج تنموية موجهة للمناطق الهشة، كالمناطق الجبلية والأودية والمجالات الريفية، مع التركيز على تحسين الخدمات الأساسية وفرص الشغل وتعزيز الاستثمار المحلي المنتج.
كما يتضمن المشروع التزامات نحو ترقية السكن وإعادة إعمار المناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية، فضلاً عن الاهتمام بكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة ودعم الجالية المغربية بالخارج، في إطار رؤية شاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ورغم ما يعكسه المشروع من نفس اجتماعي واضح وتوجه إصلاحي منسجم مع الرؤية الملكية، إلا أن نجاحه الفعلي يظل مرتبطا بقدرة الحكومة على تحويل الأهداف الكبرى إلى سياسات تنفيذية فعالة ومؤشرات قابلة للقياس، فالدولة الاجتماعية لا تبنى بالأرقام وحدها، بل بالنتائج الملموسة التي يشعر بها المواطن في مدرسته، ومستشفاه، ووسط مجتمعه المحلي.
من حيث المبدأ، لا يختلف اثنان على أن التعليم والصحة والحماية الاجتماعية تشكل أعمدة أي مشروع مجتمعي عادل، لكن المشروع الحالي، رغم إعلانه عن رفع الميزانيات المخصصة لهذين القطاعين ، لا يبدو أنه يقدم تحولا نوعيا في منطق تدبير هذه القطاعات بقدر ما يعيد إنتاج نفس المقاربة الكلاسيكية القائمة على الزيادة في الأرقام دون ضمانات واضحة لتحسين جودة الخدمات.
فعلى سبيل المثال، ما زال قطاع التعليم يعاني من ضعف البنية التحتية وتردي ظروف التمدرس في القرى والمناطق الجبلية، وهو ما يجعل أي زيادة مالية محدودة الأثر ما لم تواكبها إصلاحات بنيوية في الحكامة وتوزيع الموارد، أما قطاع الصحة، فلا يزال يواجه عجزا مزمنا في الأطر والمعدات، في وقت ترتفع فيه كلفة العلاج وضعف ولوج المواطنين إلى الخدمات الصحية الأساسية.
أما على مستوى الحماية الاجتماعية، فإن إعلان الحكومة عن بلوغ أكثر من 88% من السكان تحت مظلة التأمين الإجباري عن المرض يعد خطوة مهمة من حيث الشكل، لكنها تصطدم في الواقع بضعف التغطية الفعلية وجودة الخدمات، مما يجعل الحماية الاجتماعية أقرب إلى منظومة على الورق أكثر منها ممارسة على الأرض، كما أن توسيع التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل يظل مرهونا بإصلاحات عميقة في أنظمة التمويل وضمان الاستدامة المالية للصناديق.
وإذا كان المشروع يتحدث عن دعم القدرة الشرائية ومواصلة دعم المواد الأساسية، فإن هذا التوجه يثير مخاوف من استمرار سياسة الإعانات المكلفة دون رؤية واضحة للإصلاح التدريجي لصندوق المقاصة أو وضع بدائل أكثر عدالة واستهدافاً.
وفي الجانب الترابي، يرفع المشروع شعار العدالة المجالية والتنمية الترابية المتكاملة، وهي مفاهيم تكررت في مختلف خطابات الحكومة منذ سنوات، غير أن ترجمتها الميدانية لا تزال محدودة جدا، فالمناطق الجبلية والقروية التي أشار إليها المشروع لا تزال تعيش هشاشة بنيوية وضعفا في التجهيزات الأساسية، فيما تتفاقم الفوارق بين المركز والهامش، وبين الجهات الساحلية والغابرة في الداخل.
كما أن الرهان على تعزيز الاستثمار المحلي وخلق فرص الشغل يظل رهينا بمدى قدرة الدولة على توفير مناخ جاذب ومحفز للمقاولات الصغيرة والمتوسطة، عوض الاكتفاء بتكرار لغة النوايا.





