الصيادلة في مواجهة الحكومة: تسقيف أسعار الأدوية يعيد التوتر إلى السطح

حسين العياشي
تعيش الصناعة الدوائية على وقع توترات متصاعدة تنذر بأزمة غير مسبوقة في هذا القطاع الحيوي. فقد وجهت النقابات المهنية للصيادلة رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة، نددت فيها بما وصفته بـ«تهميش مهنيي الصيدلة»، بعد أن أقدم وزارة الصحة على اعتماد مرسوم جديد لتحديد أسعار الأدوية من دون أي تشاور مسبق مع المعنيين. خطوة اعتبرها الصيادلة إقصائية، تعيد إلى السطح توترات قديمة حول نظام تسعير يوصف منذ سنوات بأنه غير فعّال ولا يعكس واقع السوق.
الصيادلة اليوم يدقون ناقوس الخطر، محذرين من أزمة ثقة باتت تهدد منظومة الدواء برمتها، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو ثلث الصيدليات يواجه خطر الإفلاس. ويرى ممثلو القطاع أن جذور الأزمة تعود إلى غياب الحوار البنّاء، وانعدام رؤية مشتركة لتحديث سلسلة إنتاج الدواء وتوزيعه وضمان وصوله إلى المريض في ظروف شفافة ومستقرة.
وفي خضم هذا الاحتقان المهني، يبرز ملف آخر لا يقل أهمية: القواعد الجديدة المتعلقة باستيراد الأدوية وتداولها داخل السوق الوطني. فالقانون الجمركي والضريبي يشهد تعديلات جوهرية ستدخل حيز التنفيذ في الأول من يناير 2026، وتشمل بالأساس الفصول المتعلقة برقابة السلع المستوردة، بما في ذلك المنتجات الصيدلانية. وتنص المادة 19 مكرر على إلزام المستوردين بالتصريح الدقيق بمواقع تخزين أو تحويل منتجاتهم، ما يعني تشديد الرقابة على مسار الدواء منذ لحظة دخوله البلاد.
هذه الإجراءات الجديدة ستُمكّن السلطات من تتبّع كامل لمسار الدواء، ومطابقة طبيعة المنتجات مع التصاريح القانونية وأماكن تخزينها أو تحويلها، في خطوة تهدف إلى مكافحة التهريب والتزوير، وضمان سلامة سوق يظل عرضة لشبكات التزييف والتجارة الموازية.
ومن أبرز التحولات التي تحملها هذه الإصلاحات، اعتماد المنصات الإلكترونية في المعاملات الجمركية. فالمادة 76 مكرر تنص على إنشاء منصة رقمية مرخصة من إدارة الجمارك، تتيح إيداع الوثائق التجارية ونقلها بشكل مؤتمت وآمن. خطوة ستُحدث نقلة نوعية في مسار استيراد الأدوية، من خلال تسريع إجراءات التخليص الجمركي وتقليص الأخطاء والتلاعبات. كما ستتيح هذه المنصة تبادل البيانات في الوقت الفعلي بين وزارتي الصحة والتجارة، ما يضمن شفافية كاملة في تتبع الدواء من التصنيع إلى التداول.
في الوقت ذاته، وسّع القانون الجديد نطاق الجرائم الجمركية، إذ نصّت المادة 282 على اعتبار كل تحايل في التصاريح أو إخفاء للبضائع في العبور نوعاً من التهريب يعاقب عليه القانون. وتشمل العقوبات الآن بوضوح أي استيراد غير مصرح به أو ناقص للمنتجات الصيدلانية، في مسعى للتماشي مع المعايير المعتمدة من قبل منظمة الجمارك العالمية، وضمان ألا يُطرح أي دواء في السوق المغربي إلا بعد استيفاء جميع شروط المراقبة.
ويرى المراقبون أن هذه الإصلاحات، رغم طابعها الصارم، قد تسهم على المدى البعيد في تعزيز موقع المغرب كمنصة إقليمية لتصنيع وتوزيع الأدوية في إفريقيا، بفضل معايير التتبع الصارمة التي تتوافق مع متطلبات الشركاء الدوليين والمختبرات العالمية.
لكنّ لهذه التحولات وجهاً آخر لا يخلو من التحديات. فبينما تُحدث هذه الإجراءات قفزة نوعية في تحديث الإدارة وتعزيز الشفافية، تخشى بعض الجمعيات المهنية أن تؤدي الرقمنة إلى تعميق الفجوة بين كبار المستوردين والصيدليات الصغيرة التي قد تجد صعوبة في التكيّف مع الأنظمة الرقمية الجديدة.
الصيادلة أنفسهم لا يعارضون التشديد في المراقبة، لكنهم يؤكدون أن الإصلاح يجب ألا يُمسّ بمبدأ العدالة في ولوج الدواء، وأن التحديث ينبغي أن يراعي هشاشة الفاعلين الصغار في القطاع. فالتحدي الحقيقي اليوم هو إيجاد توازن بين رقابة صارمة تضمن سلامة الدواء وسرعة في التزويد تضمن عدم انقطاعه عن المرضى.
وسط هذا المشهد المتوتر، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة فتح قنوات الحوار بين الحكومة والمهنيين، من أجل صياغة رؤية مشتركة تضع صحة المواطن في صلب الاهتمام، وتؤسس لمنظومة دوائية عصرية وآمنة تضمن جودة الدواء وعدالته وتوفّره للجميع.





