جمالي الإدريسي: ضحيةٌ مُنصَفة وطفلٌ مُعاد البناء.. معادلة الإدماج العادل

حسين العياشي
بصوتٍ يحمل خبرة الميدان وقلق المستقبل، قدّم المنسق العام لمؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، عبد الواحد جمالي الإدريسي، رؤيةً عملية تُسند ورش “الحرية المحروسة” ليغدو مساراً اجتماعياً كاملاً لا يتوقّف عند حكمٍ قضائي ولا ينتهي عند باب المؤسسة.
المنسق العام، قال بوضوح إن إعادة الإدماج ليست شعاراً يُرفع في المناسبات، بل سلسلة متشابكة من التدخّلات تبدأ من لحظة التعرّف على الطفل المخالف للقانون، وتستمر عبر مواكبةٍ فردية دقيقة، وتنتهي حين يستعيد الطفل موقعه الطبيعي داخل أسرته ومدرسته وحياته المهنية الناشئة. “نحن لا نُطلق الوعود، نحن نُشيّد المسارات”، بهذه العبارة افتتح مداخلته، واضعاً معياراً صارماً للأثر: تقليص العود، رفع نسب العودة إلى التمدرس، وتأمين جسر آمن نحو التكوين والتشغيل.
كما انطلق المتحدّث من قاعدةٍ بسيطة: لا إدماج بلا ثقة، ولا ثقة بلا حضورٍ يوميّ في حياة الطفل. لذلك شدّد على ضرورة توطين خدمات المواكبة داخل الأحياء والمدارس ومراكز الإصغاء، بما يضمن سرعة التدخّل ودفء القرب الإنساني. وأوضح أنّ المؤسسة راكمت خبرةً في بناء “ملفّ حياة” لكل طفل، يتضمّن تقييماً نفسياً–تربوياً، وخطة مصاحبة فردية موقّعة مع الأسرة، وجدولةً للزيارات والمتابعة، ومداخل واضحة للوساطة المدرسية وجبر الضرر. “الوثيقة هنا ليست ورقاً إدارياً، بل عقد ثقة يُحاسَب عليه الجميع”، يقول.
وفي القلب من الرؤية، دعا إلى جعل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني حاضنةً لفرص الأطفال المعنيّين، عبر شراكات مع المقاولات المواطِنة والجماعات الترابية ومكاتب التكوين، وإحداث مسارات تدريب مهني قصيرة متبوعة بعقود إدماج مدروسة. الإصلاح، كما يؤكد، لا يكتمل بدرسٍ توعوي، بل بمهارة قابلةٍ للتشغيل. لذا طرح مقاربة “التعلّم في موقع العمل” عبر ورشاتٍ محمية، ومقاولات صغرى مُرافَقة، وحصص للتثقيف المالي، حتى يتعرّف الطفل إلى معنى المسؤولية والإنتاج والالتزام بالمواعيد.
ولأنّ كل سياق أسري مختلف، شدّد المنسّق العام على تعميم الوساطة الأسرية والإرشاد الأبوي كجزءٍ أصيل من “الحرية المحروسة”. فالبيت هو الحلقة الأولى في الوقاية من العود، والمدرسة هي الحاضنة الطبيعية لقياس التقدّم. لذلك دعا إلى توحيد بروتوكولات الإحالة بين القضاء والمؤسسة والمدرسة والمستشفى، وإلى منصّة بيانات موحّدة ترصد مسار الطفل من أول إجراء إلى غاية الإقفال، بمؤشرات حية: زمن الاستجابة، تواتر المواكبة، مواظبة التمدرس، ساعات التكوين، ورأيُ الضحية في إجراءات العدالة التصالحية. “نقيس الأثر لا النيّات، ونُموْل ما يُثبت فعاليته”، يضيف.
في السياق ذاته، أوضح أنّ العدالة التصالحية ليست عنواناً أخلاقياً وحسب، بل أداة عملية لشفاء الجماعة الصغيرة من جرح الفعل المُجرّم. من هنا يأتي الحرص على دوائر للوساطة الراجعة بالنفع على الطرفين، حيث يسمع الطفل صوت الضحية ويتحمّل مسؤولية جبر الضرر في إطارٍ يحفظ الكرامة ويُعيد الاعتبار. “نُريد ضحيةً مُنصَفة وطفلاً مُعاد البناء”، يقول المنسّق العام، مؤكداً أنّ كليهما جزء من سلامٍ اجتماعي لا يتحقّق بالعقوبة وحدها.
وعلى مستوى الحكامة، دعا إلى تعاقدٍ مؤسساتي مُعلن يُحدّد الأدوار والمسؤوليات وآجال الإنجاز، ويُتيح تقييمات دورية شفافة. وأكّد أنّ المؤسسة جاهزة لتقديم دلائل عملٍ عملية، وبرامج تكوين مستمر للمرشدين الاجتماعيين والوسطاء التربويين، مع وحدات متخصصة في علم نفس الصدمات، ومهارات إدارة الحالة، وتقنيات المتابعة الميدانية. كما شدّد على تعبئة التمويل عبر شراكات ثلاثية تجمع الدولة والفاعلين الترابيين والقطاع الخاص، مع حوافز للمقاولات التي توفر فرص تدريبٍ محمي وتشغيلٍ مرفوق.
وختم المنسق العام برسالةٍ مكثّفة: “الحرية المحروسة ليست هدنةً مؤقتة مع القانون، بل بداية عقدٍ جديد مع الحياة”. فإذا وُضعت الخطة الفردية في وقتها، وسرنا بها بثباتٍ وشفافية، وتشاركت الأسرة والمدرسة والقضاء والمجتمع المدني في حملها، أمكننا أن نحوّل قصص الزلل إلى سيرٍ للعودة الآمنة. تلك هي الغاية: طفلٌ يستعيد توازنه وكرامته، وضحيةٌ تلقى إنصافها، ومجتمعٌ يطمئن إلى عدالةٍ قريبة رحيمة، دقيقة في القياس، وفاعلة في الوقاية بقدر فاعليتها في الإصلاح. بهذه الروح، قدّم المنسق العام وعداً عملياً: تحويل الأفكار إلى مسارات، والمسارات إلى نتائج يُمكن لمسها في واقع الأطفال والأسر والمدارس.





