ثلث المغاربة في القرى: خريطة التغيير والتنمية غير المتكافئة (تقرير)

حسين العياشي
أفرجت المندوبية السامية للتخطيط، استنادًا إلى معطيات إحصاء 2024، عن تقرير يرسم ملامح البوادي المغربية بدقة غير مسبوقة، بعد مسحٍ شمل أكثر من 33 ألف دوار. يقدّم التقرير خريطة اجتماعية وعمرانية وخدمية تُظهر كيف يعيش سكان القرى اليوم، وأين تتقدّم التنمية وأين تتعثر.
تُظهر المعطيات أنّ نحو 37% من المغاربة ما زالوا يقيمون في الوسط القروي، وتشكل الأسر القروية قرابة ثلث مجموع الأسر. وعلى مستوى البنية الترابية، يضم كل جماعة قروية في المتوسط حوالي 26 دوارًا، تتوزع بين ثلاثة أنماط للسكن: دواوير مجمّعة في نقطة واحدة وهي الغالبة، وأخرى متفرقة على عدّة مواقع، وثالثة شديدة التشتت. وتبرز جهتا درعة–تافيلالت ومراكش–آسفي بوصفهما الأكثر طابعًا قرويًا، في حين يغلب الطابع الحضري على المناطق الصحراوية.
لا يتقاسم السكان القرويون المجال بالتساوي؛ فأغلبهم يتمركز في دواوير “متوسطة” الحجم تضم ما بين 30 و500 أسرة. وتمثل هذه الفئة ثلثي الدواوير وتحتضن نحو 80% من سكان البادية، بينما توجد دواوير صغيرة كثيرة العدد قليلة السكان، ودواوير كبيرة محدودة العدد لكنها ذات وزن ديمغرافي معتبر. هذه الخريطة تعني عمليًا أن محركات التنمية القروية تدور، في الغالب، حول مراكز بشرية متوسطة منتشرة عبر التراب الوطني.
على مستوى التحولات الديمغرافية، يسجّل التقرير انكماشًا في عدد الأطفال دون 15 سنة مقارنة بسنة 2014، مقابل ارتفاع في أعداد كبار السن؛ غير أنّ شباب عدد غير قليل من الدواوير وحيويتها ما يزالان حاضرين، مع تباينات جهوية واضحة. ويبرز كذلك منحى “تأنيث” الوسط القروي: فرغم أن عدد الرجال إجمالًا أعلى بقليل، فإن أكثر من ثلث الدواوير تسجّل حضورًا نسائيًا يفوق الرجال، نتيجة هجرة ذكورية مكثّفة نحو المدن أو الخارج. وفي المقابل، يكشف تعميم التسجيل في الحالة المدنية الذي قارب 99% عن قفزة مهمة في الإدماج الإداري وتبسيط الولوج إلى الحقوق.
عمرانيًا، تحسّنت جودة السكن؛ فثلاثة أرباع الأسر القروية تقطن اليوم بيوتًا مبنية بمواد صلبة، كما حققت أكثر من ثلث الدواوير مستوى مرتفعًا من التحديث. ومع ذلك، ما يقارب 30% من الدواوير ما تزال تعرف هشاشة سكنية، خصوصًا في المناطق النائية وصعبة الولوج، حيث تتراكم كلفة البعد الجغرافي وضعف التجهيزات.
وتتبدّى على شبكة الطرق علامة تقدّم لافتة: 90% من الدواوير باتت متصلة بمسالك تلجها السيارات، و75% بطرق معبّدة. غير أن تحسّن الربط لا يواكبه دائمًا تقارب الخدمات الأساسية؛ فبينما تقع مدرسة ابتدائية على مقربة من أغلب الدواوير، يظل الوصول إلى الإعدادية والثانوية محدودًا ضمن نفس النطاق. وفي الصحة، لا يتجاوز نصيب أقل من أربعة دواوير من أصل عشرة التواجد في مسافة تقل عن خمسة كيلومترات من مستوصف، ما يطيل زمن التنقل ويرفع كلفة الولوج إلى الرعاية.
المحصلة أن البادية المغربية تمضي في مسارٍ تقدّمي ملموس على صعيد السكن والطرق والإدارة، غير أنّ الفجوة المجالية ما تزال قائمة. ولتكتمل الصورة لصالح العدالة في الفرص، تحتاج السياسات العمومية إلى تسريع تقارب الخدمات التعليمية، خاصة الإعدادية والثانوية، وتقريب البنيات الصحية من السكان، مع تثمين المراكز القروية المتوسطة بوصفها عقدًا محوريةً للتنمية ورافعةً لتوازن المجال. بهذه المقاربة، يمكن لتحسن المؤشرات أن يتحول إلى جودة عيشٍ معمّمة لا يستثنى منها أحد.





