الصحافة بالمغرب… مهنة تُحتضَر أم تُغتَال؟

سعيد كان
علاقتي بالإعلام تعود إلى التسعينيات، حين كان الاحتكاك بالمجال يتم عبر مسارات محدودة ومؤسسات قليلة، لكنها كانت رغم محدوديتها تحمل روحاً مهنية قوية.
يومها لم تكن هناك وفرة في معاهد التكوين، ولا في الموارد التقنية، ولا في مساحات التدريب المتاحة اليوم، ومع ذلك كان العاملون في الإذاعة والتلفزة المغربية – التي ستتحول لاحقاً إلى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون – يستفيدون من تكوينات طويلة الأمد، مركّزة وموضوعاتية، قادرة على صقل مهاراتهم، وتعويض كل نقص في الإمكانات.
ويمكنني قول الشيء ذاته في حق زملائنا آنذاك في القناة الثانية وإذاعة البحر الأبيض المتوسط، ووكالة المغرب العربي للأنباء (لاماب) والجرائد الحزبية والمستقلة حينها.
كانت تلك التكوينات تتتبع التطور الحاصل في العالم، وتمنح الصحافيين فرصة لفهم التحولات المهنية وامتلاك أدوات العمل، في وقت كانت فيه المهنة تمضي بثبات لتبني لنفسها صورة واضحة داخل المجتمع، لكن المفارقة المؤلمة اليوم أن كثرة المعاهد وتنوع المؤسسات وتعدد مصادر التمويل لم تُنتج واقعاً مهنياً يعكس حجم هذه الموارد.
فالمشهد الإعلامي، برغم اتساعه الظاهري، يعاني من هشاشة غير مسبوقة، ومن تراجع في جودة التكوين العملي، حيث بات الخريجون يفتقرون إلى الحد الأدنى من أدوات الممارسة الميدانية. ورغم وجود مؤسسات أكاديمية عديدة، فإن الفجوة بينها وبين وسائل الإعلام تكبر باستمرار، وكأنهما يتحركان في عالمين مختلفين.
ومع غياب التكوين المستمر داخل المقاولات الإعلامية، قلّت قدرة الصحافيين على مواكبة التطور السريع الذي يعرفه المجال دولياً، سواء في تقنيات الإنتاج أو في أشكال السرد الحديثة أو في أدوات التحقيق والاستقصاء.
في هذا السياق، ومع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي وتناسل المواقع الإلكترونية الإخبارية، جاء التركيز المتزايد على الضبط القانوني ليزيد من تآكل الفعالية المهنية. فبدل أن تتجه السياسات العمومية نحو دعم التجويد وتطوير الكفاءات، انشغل الجميع بمنطق التنظيم والكبح، كما لو أن بناء صحافة قوية يُختزل في إصدار النصوص القانونية.
ومع مرور الوقت، تحولت القوانين إلى عنوان لمشهد متوتر، بينما ظلت الجودة خارج النقاش، وتراجعت قدرة المؤسسات الإعلامية على إنتاج محتوى منافس، قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وتزايد هذا الضعف مع الصراع المزمن داخل الجسم الصحافي، وهو صراع لم يترك للمهنة فرصة لتشكيل جبهة موحدة تحميها وتدافع عن دورها.
فبدل التعاون لبناء درع إعلامي يحمي البلد من الهجمات المنظمة التي تتكاثر حوله، انقسم الصحافيون بين مرجعيات ونزاعات صغيرة، تاركين فراغاً واسعاً ملأته صحافة هامشية أو سطحية، بينما اختفت تقريباً الصحافة القادرة على إنجاز التحقيقات الكبرى أو تقديم سرديات وطنية رصينة.
ولم يكن أداء المجلس الوطني للصحافة سوى جزء من هذا التعثر العام. فقد تحولت تجربة التنظيم الذاتي التي كان يُفترض أن تعزز استقلالية المهنة إلى نموذج للفشل في الحكامة، مما أدى إلى تشويه صورة الصحافة بدل الارتقاء بها. وجاء ذلك في وقت انتشرت فيه ممارسات إعلامية غير مهنية أثارت استياء الجمهور، مثل التشهير، واقتحام الحياة الخاصة، واستعمال المنصات الرقمية في صراعات شخصية أو تجارية، ما زاد من فقدان الثقة في الإعلام.
ويبرز ملف بطاقة الصحافة كعنوان لاختلالات أعمق. ففي تجارب كثيرة عبر العالم، تكون النقابات المهنية هي الجهة التي تمنح هذه البطاقة باعتبارها الأقرب إلى الصحافيين والأقدر على تمثيلهم. أما في المغرب، فيبدو أن الاتجاه يسير نحو إعادة إنتاج نموذج لمجلس يشتغل بمنطق المقاولات الإعلامية أكثر مما يشتغل بمنطق الممارسين المهنيين، مما يهدد بفقدان المهنة للاستقلالية القليلة المتبقية لها.
وفي الوقت الذي يعرف فيه العالم ازدهاراً كبيراً للإعلام البديل ومنصات التواصل التي باتت قادرة على إنتاج محتوى قوي ومؤثر، كان حرياً بالتجربة المغربية أن تتجه نحو التنويع والتطوير واستثمار تاريخها المهني الطويل، لا أن تنشغل فقط بقوانين الضبط. فالمستقبل لن يكون لصوت واحد ولا لمنطق السيطرة، بل للمحتوى القادر على الإقناع، وللمهارات التي تتطور مع الزمن، ولصحافة تُعيد بناء ذاتها بثقة ومسؤولية.





