الحلقة (3): حصيلة إدريس الشطيبي.. سؤال يتيم وخمس سنوات من الصراخ تحت قبة البرلمان

حسين العياشي

مع اقتراب قطار الولاية التشريعية من محطة النزول، تواصل هذه السلسلة الغوص في ملفات حصيلة “ممثلي الأمة” تحت قبة البرلمان.

بعد أن توقّفنا في الحلقتين السابقتين عند نماذج “الحاضر الغائب” من الأغلبية، نعرّج اليوم على المعارضة، وتحديدًا على النائب البرلماني إدريس الشطيبي، عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المنتخب عن دائرة صفرو.

نائب من حزب كان يومًا ما يُوصف بـ”ضمير الوطن” وصوت الشارع، حزب كان إذا وقف نوابه يتحدثون في البرلمان اهتزّت القاعة واحمرّت الملامح وارتبكت الحكومات. واليوم، نجد أنفسنا أمام حصيلة لا تهزّ شيئًا.. سوى أعصاب المواطنين.

حصيلة إدريس الشطيبي، بكل بساطة، تُختزل في رقمين لا ثالث لهما: سؤال شفوي واحد، وصفر سؤال كتابي، على امتداد ولاية كاملة تقارب خمس سنوات. أي أننا أمام “ولاية السؤال الواحد”. سؤال يتيم، يتيم جدًا، محاط بجدار سميك من الصمت النيابي، يتقاضى في المقابل أكثر من 30 ألف درهم كأجرة صافية كل شهر، فضلاً عن التعويضات والامتيازات.

وحتى لا نفسد متعة الحساب، دعونا نترك الآلة الحاسبة تقوم بالباقي: عشرات الآلاف شهريًا، مضروبة في سنوات، من أجل سؤال شفوي واحد. سؤال لو تُرجم إلى أشغال ملموسة، لربما تحوّل إلى قاعة علاج في قرية نائية، أو مدرسة قروية مجهزة، أو دار للشباب في صفرو نفسها. لكن السؤال اختار أن يعيش ويموت تحت القبة، في محضر الجلسة، بينما بقيت المرافق الاجتماعية تنتظر من يمثلها حقًا.

هنا يطلّ السؤال الأشد إيلامًا: ما المنطقي أكثر؟ أن نعتبر هذا “استثمارًا في الديمقراطية”، أم كلفة باهظة لصمت سياسي مغطّى بعنوان “تمثيل الأمة”؟ وما جدوى مؤسسة تُغدِق على ممثلي الشعب أجورًا وتعويضات، مقابل حصيلة يمكن تلخيصها في جملة واحدة؟

لكن المفارقة مع إدريس الشطيبي لا تقف عند حدود الأرقام الجافة. فالرجل ليس غائبًا تمامًا عن المشهد، بل على العكس، ما إن يمسك بمطرقة تسيير الجلسة حتى يتحوّل البرلمان إلى مسرح كامل الدسم.

أسلوبه في التسيير يكاد يكون مدرسة مستقلة: كلما ترأس الجلسة، ارتفع منسوب الضجيج. نواب يتذمرون، آخرون يحتجون، أصوات تتعالى، ميكروفونات تُفتح وتُغلق، وتنبيهات تتساقط كالمطر.

من سابع المستحيلات – كما يهمس بعض البرلمانيين – أن تمر جلسة يسهر الشطيبي على تسييرها دون توتر حاد أو انفجار سجال سياسي أو تنظيمي.

غير أن الإنصاف يقتضي الاعتراف بوجه آخر للصورة: إدريس الشطيبي يبدو متمكنًا من القانون الداخلي للمجلس، يلوّح بنصوصه كما يلوّح آخرون باليافطات الانتخابية. مشكلته – أو مشكلتهم معه – أنه يطبّق النص في مجلس لا يعرف بعض المحسوبين عليه حتى لماذا هم داخله. لعله قالها لهم صراحة في الجلسة الأخيرة:”من لا يحترم القانون فقد أخطأ في العنوان ومكانه ليس هنا داخل البرلمان..”.

لذلك، كثيرًا ما تتحول رئاسته للجلسة إلى ما يشبه “درسًا مفتوحًا في القانون البرلماني” على المباشر. يجلس النواب في مقاعدهم، يتبادلون النظرات، فيما يُلقي عليهم الشطيبي محاضرات شفهية في احترام النظام الداخلي، وفي واجبات الحضور والانضباط وحقوق الفرق والنواب. هو يعتقد أنه يربّي المؤسسة على القانون، وهم يعتبرون أن الجلسة تحوّلت إلى “قسم مسطرة برلمانية” غير مرغوب فيه.

هذا التناقض بين صمت الأداء الرقابي والتشريعي من جهة، وضجيج التسيير من جهة أخرى، لا يمكن فصله عن السياق الحزبي الذي ينتمي إليه الرجل. فنحن لا نتحدث عن نائب مستقل أو وجه طارئ على السياسة، بل عن برلماني يحمل بطاقة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحزب الذي كان يومًا ما يملأ قبة البرلمان صخبًا بالأسئلة القوية، والمرافعات الحارقة، والخطب التي تُعاد مشاهدتها أكثر مما تُعاد مباريات كرة القدم.

ذلك الحزب الذي كانت “وردة” شعاره تُرى في أعين الفقراء قبل اللافتات، صار اليوم في كثير من الأحيان مجرد ظلّ باهت لتاريخه، ووردة ذابلة في مشهد سياسي محتاج لمن يسقيه بمواقف صادقة وتمثيل حقيقي. من حزب يهزّ الحكومات باستجوابات مدوية، إلى حزب يمثلّه في دائرة ما نائب بحصيلة سؤال واحد.. المفارقة هنا ليست شخصية فقط، بل سياسية بامتياز.

الشطيبي، في هذا المعنى، ليس مجرد نائب بحصيلة ضعيفة؛ إنه عرض من أعراض مرض أعمق يعانيه حزب كان صوتًا شعبويًا ديمقراطيًا قويًا، فتحوّل إلى حضور باهت يبحث عن موطئ قدم وسط خريطة سياسية مرتبكة، حتى وإن كان ذلك على حساب إيديولوجياته التي لم تعد تخجل من اصطفاف الى جانب الليبرالية “المتغولة”، بدل مواجهتها بسيل من الأسئلة والمرافعات كما كان يحدث في قبل تنصيب الكاتب العام الحالي “إدريس الرابع”.

لعلّ المشهد الأكثر دلالة هو هذا: نائب معارض، من حزب تاريخي، يعلّم زملاءه أبجديات النظام الداخلي، بينما ينتظر منه ناخبوه في صفرو أن يسأل عن المستشفى الإقليمي، وعن حالة المدارس، وعن البطالة، وعن البنية التحتية، وعن الشباب الذين يهاجرون في قوارب الموت.

يعرف تفاصيل الفصول والمواد، لكن لا يسمع له أحد وهو يطرق أبواب الملفات الكبرى التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية. يهتم بانضباط الجلسات، بينما تنفلت حاجيات المواطنين من بين أيدي المؤسسات.

في النهاية، يقدم إدريس الشطيبي نموذجًا خاصًا من نماذج “الوجود الناقص” تحت القبة: نائب لا يمكن اتهامه بالغياب الجسدي، لكنه حاضر في المكان الخطأ؛ حاضر حين يتعلق الأمر بالتسيير الشكلي، وغائب حين يكون المطلوب هو الفعل السياسي والرقابي والتشريعي.

وبين سؤال شفوي يتيم، وخمس سنوات من الأجرة والتعويضات، وجلسات لا تهدأ فيها الضجة كلما جلس على مقعد الرئاسة، تظل الحصيلة العامة أقرب إلى علامة استفهام كبيرة معلّقة في سقف البرلمان: أهذه هي المعارضة التي يُفترض أن تراقب الحكومة؟ أهذا هو الاتحاد الاشتراكي الذي كان يومًا ما يرعب الوزراء من مجرد فكرة طرح سؤال واحد؟

هكذا تُغلق هذه الحلقة الثالثة على صورة وردة حزبية ذابلة، ونائب معارض يثير الجدل أكثر مما يثير الأسئلة، وبرلمان يدفع له ثمن الصمت أكثر مما يكافئه على الكلام.

وبينما يزداد عطش الشارع إلى من يتبنى صوته ويدافع عنه حقًا، سنواصل في الحلقات القادمة تتبع مسار نواب آخرين، من الأغلبية والمعارضة على السواء، ممن اختاروا أن يكونوا ديكورًا في مشهد ديمقراطي هش، بدل أن يكونوا صوتًا صريحًا في زمن يحتاج لكل كلمة صادقة تحت القبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى