الصين نحو تعزيز مكانتها في العالم العربي

منير عطوشي

مع تصاعد الأحداث في غزة وتزايد الضغوط الدولية لإيجاد حل للأزمة الإنسانية، برزت الصين كموقف دولي داعم للفلسطينيين ورافض لأي تهجير قسري لسكان القطاع. هذا الموقف لم يكن وليد اللحظة، بل يعكس استراتيجية دبلوماسية مدروسة تستند إلى قراءة دقيقة للمشهد العربي والدولي، خاصة بعد المواقف الحاسمة التي عبرت عنها مصر ودول عربية أخرى تجاه أي محاولات لتغيير التركيبة السكانية لغزة.

عندما أعلن ترامب عن خطته للسلام، التي عُرفت بـ”صفقة القرن”، وقوبلت برفض واسع من الدول العربية، رأت الصين في ذلك فرصة لتعزيز علاقاتها مع العالم العربي، مستغلة المعارضة القوية لهذه السياسات. لم يكن موقف الصين مجرد تعبير عن دعم حقوق الفلسطينيين، بل كان خطوة ذكية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، الذي ظل لفترة طويلة ساحة نفوذ أمريكية.

في ظل هذه الظروف، برز الموقف المصري كعامل حاسم. رفضت مصر بشكل قاطع أي مخططات لتهجير سكان غزة إلى سيناء أو أي منطقة أخرى، مؤكدة أن القضية الفلسطينية لا يمكن حلها عبر حلول ترقيعية تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه. هذا الموقف المصري القوي، الذي حظي بتأييد شعبي عربي واسع، شكل تحديًا للمخططات التي تسعى لتغيير الواقع الديموغرافي في غزة، وفتح الباب أمام قوى دولية أخرى لدعم هذا الموقف.

لم تتأخر الصين في اغتنام الفرصة. فأكدت على لسان وزير خارجيتها أن غزة جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية، وأن أي محاولات للتهجير القسري تتعارض مع مبادئ العدالة الدولية. بهذا التصريح، لم تكتفِ الصين بإبداء موقف دبلوماسي، بل رسخت لنفسها موطئ قدم جديدًا في السياسة الإقليمية، مستفيدة من المعارضة العربية لسياسات ترامب ورفض الشارع العربي لأي حلول تلتف على حقوق الفلسطينيين.

لا يمكن فصل هذا الموقف الصيني عن استراتيجيتها الأوسع في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع العالم العربي. فالصين، التي تعتبر أكبر مستورد للنفط من المنطقة، تدرك أهمية كسب تأييد الشارع العربي وقادته لتعزيز مبادرة “الحزام والطريق” وتوسيع استثماراتها في البنية التحتية والطاقة. ومن خلال تبنيها موقفًا داعمًا للفلسطينيين، تعزز الصين مصداقيتها كشريك استراتيجي للمنطقة، في وقت تتزايد فيه التساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بمصالح حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط.

إضافة إلى ذلك، تسعى الصين لتقديم نفسها كوسيط دولي محايد في الصراع العربي-الإسرائيلي، في مقابل الانحياز الأمريكي الواضح لإسرائيل. هذا التوجه يمنحها فرصة لتعزيز دورها كقوة عظمى مسؤولة، قادرة على لعب دور بناء في حل الأزمات الدولية.

الموقف الصيني لم يأتِ فقط استجابة للتطورات في غزة، بل يعكس أيضًا قراءة دقيقة للتحولات في الرأي العام العربي. فقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن الشعوب العربية أصبحت أكثر وعيًا وحساسية تجاه محاولات فرض حلول لا تراعي حقوق الفلسطينيين. هذا الوعي الشعبي يشكل قوة ضغط على الحكومات العربية، التي باتت تبحث عن حلفاء دوليين يعززون موقفها الرافض لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين.

في ظل هذه المعادلة المعقدة، نجحت الصين في استغلال المعارضة العربية لسياسات ترامب لتقديم نفسها كقوة داعمة للعدالة وحقوق الشعوب، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة. هذا التوازن الذكي يعكس براعة دبلوماسية تعزز من نفوذ الصين في الشرق الأوسط وتمنحها دورًا أكبر في صياغة المشهد السياسي الإقليمي.

في النهاية، يمكن القول إن الصين لم تكتفِ فقط بإعلان موقف تضامني مع الفلسطينيين، بل استغلت اللحظة السياسية لتعزيز مكانتها في المنطقة، مستفيدة من التحولات في الرأي العام العربي والمواقف القوية لبعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر. هذا التحرك يعكس إدراكًا عميقًا لتعقيدات الصراع في الشرق الأوسط، وقدرة على تحويل الأزمات إلى فرص لتعزيز النفوذ الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى