الاستلهام السوري من التجربة المغربية.. طريق نحو العدالة الانتقالية

بشرى عطوشي 

في دروب التاريخ، تتلاقى التجارب الإنسانية رغم اختلاف الجغرافيا والأزمنة، وكأن العدالة قدر مؤجل يتطلب الصبر والإرادة. حين نتأمل في تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، نجد في طياتها درسًا بليغًا للباحثين عن الحقيقة في سوريا، حيث تنوء الأرض بأثقال الألم، وتتشبث الأرواح بحلم العدالة بعد سنوات من النزف. فهل يمكن أن تكون التجربة المغربية منارة تُرشد السوريين في بحثهم عن العدالة الانتقالية؟

من جراح الماضي إلى أمل المصالحة

لم يكن الطريق نحو المصالحة في المغرب معبّدًا بالسلاسة، بل مر عبر أنين الضحايا وأصداء المعتقلات التي كانت شاهدًا على سنوات الجمر والرصاص. لكن الجرأة على مواجهة الماضي، وإنصاف من طحنتهم آلة القمع، صنعت تجربة فريدة في العالم العربي. ولأن العدالة ليست مجرد محاكمات، بل كشفٌ للحقيقة، وجبرٌ للضرر، وإصلاحٌ يقطع الطريق على تكرار المأساة، فإن المغرب رسم خريطة طريق يمكن أن يستلهمها السوريون في يوم ما، حين تنضج اللحظة للبوح والمحاسبة.

العدالة في سوريا: حلم مؤجل أم مسار حتمي؟

إن الحديث عن عدالة انتقالية في سوريا اليوم يبدو وكأنه ترف فكري، في ظل استمرار الانتهاكات واستعصاء الحل السياسي. لكن كما أثبتت التجارب، فإن الذاكرة لا تموت، والحقوق قد تغفو لكنها لا تُمحى. حين تضع الحرب أوزارها، ويحين وقت المراجعة، ستُطرح أسئلة كبرى: كيف نكشف الحقيقة دون خوف؟ كيف نداوي الجراح دون نسيان؟ كيف نصنع عدالة لا تتحول إلى انتقام، ومصالحة لا تصبح غفرانًا مجانيًا؟

دروس من المغرب لسوريا الغد

اولا. التوثيق أولًا: كما جمعت هيئة الإنصاف والمصالحة شهادات الضحايا ووثّقت الانتهاكات، فإن السوريين بحاجة إلى أرشيف شامل يحفظ الحقيقة من التحريف والنسيان.

ثانيا -العدالة لا تعني الانتقام: نجحت التجربة المغربية في تفادي دوامة الثأر عبر آليات التعويض والاعتراف، وهو أمر جوهري في سوريا، حيث تتشابك المظالم وتتعقد خطوط الدم.

ثالثا. الإصلاح المؤسسي أساس المستقبل: لا يمكن تحقيق عدالة حقيقية دون إعادة بناء المؤسسات الأمنية والقضائية لتكون في خدمة الشعب، لا في خدمة الطغيان.

رابعاً. الصوت للضحايا: ينبغي أن يكون الناجون في قلب أي عملية عدالة انتقالية، لا مجرد شهود في مشهد سياسي تتقاسمه القوى الكبرى.

 

نحو غد أكثر إنصافًا

وقد يبدو الاستلهام من التجربة المغربية حلمًا بعيد المنال في واقع سوري يغرق في الفوضى، لكن التاريخ علمنا أن الحقيقة، مهما تأخرت، تجد طريقها إلى النور. العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل شرط ضروري للسلام الدائم. وإذا كان للمغرب أن يقدّم درسًا لسوريا، فهو أن العدالة ليست مجرد محاكمات، بل عملية شاملة تعيد للإنسان كرامته، وتؤسس لمستقبل لا تتكرر فيه المآسي.

يومًا ما، حين تتوقف طبول الحرب، سيجلس السوريون ليحكوا قصصهم، وسيبحثون عن طريق للخروج من ظلام الماضي. حينها، قد تلمع أمامهم التجربة المغربية في المصالحة التي أنتهجت، ليس كنموذج يُنسخ، بل كإلهام يعينهم على شق طريقهم الخاص نحو العدالة والمصالحة.

الأثر النفسي على الضحايا وعائلاتهم بعد المصالحة وجبر الضرر وتحقيق العدالة الانتقالية

العدالة الانتقالية، رغم أهميتها في إعادة بناء المجتمعات بعد النزاعات، لا تُنهي معاناة الضحايا وعائلاتهم فورًا. فالندوب النفسية التي خلفتها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تظل حاضرة، وقد تتخذ أشكالًا مختلفة حتى بعد تحقيق المصالحة وجبر الضرر. فكيف تؤثر هذه العمليات على الضحايا وعائلاتهم نفسيًا؟

أولا – الأثر الإيجابي: تخفيف العبء النفسي وبداية التعافي

بالرغم من صعوبة استرجاع الماضي، فإن العدالة الانتقالية تحمل أثرًا إيجابيًا على نفسية الضحايا وعائلاتهم، من خلال:

الاعتراف الرسمي بمعاناتهم: الاعتراف العلني من الدولة أو الجهات المسؤولة بما تعرضوا له يمنحهم شعورًا بأن معاناتهم لم تكن منسية.

الكشف عن الحقيقة: معرفة مصير المختفين قسرًا قد تساعد العائلات على تجاوز حالة القلق المستمر وعدم اليقين.
جبر الضرر والتعويض: سواء كان ماليًا، صحيًا، أو اجتماعيًا، فإن التعويض يساعد في تخفيف الأعباء الحياتية الناجمة عن الانتهاكات.
إعادة الاندماج المجتمعي: توفير فرص عمل وتعليم ودعم نفسي يساعد الضحايا على استعادة مكانتهم في المجتمع.

ثانيا – الأثر السلبي: استمرار الصدمة وصعوبة النسيان

مع ذلك، فإن العدالة الانتقالية ليست علاجًا سحريًا، وقد تستمر المعاناة النفسية لدى الضحايا وعائلاتهم، لعدة أسباب:

إعادة إحياء الصدمة عبر سرد التجارب المؤلمة في جلسات الاستماع أو متابعة المحاكمات قد يعيد فتح الجروح النفسية.
الإفلات من العقاب: ففي بعض التجارب، مثل المغرب، لم يُحاسب الجناة بشكل كامل، مما يترك الضحايا يشعرون بالإحباط والظلم.
صعوبة التعافي من الفقدان: حتى بعد معرفة الحقيقة وتعويض العائلات، فإن فقدان الأحباء وغيابهم يظل جرحًا نفسيًا لا يلتئم بسهولة.
الوصم الاجتماعي: بعض الضحايا قد يواجهون نظرة سلبية من المجتمع أو تحديات في العودة إلى الحياة الطبيعية بعد الإفراج عنهم من الاعتقال.

كيف يمكن تقليل الأثر النفسي السلبي؟

الدعم النفسي والاجتماعي: توفير برامج علاج نفسي فردي وجماعي لمساعدة الضحايا على تجاوز الصدمات.

العدالة الكاملة وليست الجزئية: التأكد من عدم إفلات المسؤولين من العقاب، لأن العدالة الناقصة قد تعمّق الإحباط.

إحياء الذكرى بشكل إيجابي: تحويل الألم إلى قوة عبر إنشاء متاحف، نصب تذكارية، أو برامج تعليمية تكرّم الضحايا وتمنع تكرار الجرائم.

تمكين الضحايا اقتصاديًا: عبر توفير فرص عمل ومشاريع تنموية تعيد لهم الاستقلالية والكرامة.

المصالحة والإنصاف في أفق بناء مستقبل أكثر إنصافا

فالعدالة الانتقالية قد تفتح باب التعافي النفسي للضحايا، لكنها لا تمحو الألم بالكامل. فهي تمنحهم الاعتراف والكرامة، لكنها قد تترك في داخلهم جراحًا يصعب التئامها. لذلك، ينبغي أن تكون العدالة شاملة، لا تقتصر على التعويض المادي، بل تشمل أيضًا الرعاية النفسية والدعم الاجتماعي، حتى لا يكون الماضي مجرد فصل يُطوى، بل درس يُبنى عليه مستقبل أكثر إنصافًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى