الصحراء المغربية و مرحلة التغيير و البعد الإستراتيجي : قراءة في خطاب الملك محمد السادس

بقلم د. يوسف بونوال*

بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشر، وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، خطابا ساميا أمام أعضاء مجلسي البرلمان و هو كذلك موجه لكافة المغاربة حيث خصص محتواه لموضوع واحد و مهم و هو ملف الصحراء المغربية. الخطاب الملكي السامي يأتي في سياق دولي صعب و حساس حيث يعرف العالم مجموعة من التوثرات بتداعيات تؤثر على كل الدول مما يخلق توازنات جديدة وفق أجندات تخدمها المصالح و التموقعات. المغرب ليس بمنأى عن هاته التحولات الدولية. الخطاب السامي جسد توجها إستراتيجيا جديدا تمليه الظروف الوطنية و الدولية و خصوصا الرغبة في إيجاد الحل النهائي لقضية الصحراء المغربية بإعتبارها، كما جاء على لسان صاحب الملك محمد السادس “القضية الأولى لجميع المغاربة”.

القضية الأولى لجميع المغاربة حيث الإجماع على عدالة موقف المغرب دون مساومة أو تفاوض مما يستلزم تكثيف الجهود و أخد الأمر بكل جدية من قبل كل الفاعلين السياسيين و الإقتصاديين و مجتمع مدني لتقوية الوحدة الوطنية لحل هذا الملف بشكل نهائي و كلي و تمكين المغرب من كل حقوقه السيادية و التاريخية في الصحراء المغربية.

من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير : البعد الإقتصادي

خطاب الملك صيغ وفق منهجية مؤسسة على إستراتيجية تتبنى “التغيير” و “أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية”. إستراتيجية تعتمد على تراكمات من المكتسبات و الإنتصارات التي مكنت المغرب من كسب اعترافات دول وازنة على الصعيد الدولي مثل الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا، الدولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن. إضافة إلى مجموعة من الدول بالإتحاد الأوروبي كإسبانيا، الدولة المعنية بهذا الملف بشكل مباشر حيث إعتراف هاته الدولة بسيادة المغرب على صحرائه له دلالات مهمة على المستويات السياسية و التاريخية. كسب المزيد من الإعترافات تعزز كذلك بالمواقف الفعلية للدول العربية والإفريقية الشقيقة من خلال التمثيليات الديبلوماسية بفتح بعض القنصليات في مدينتي العيون والداخلة.

خطاب الملك محمد السادس يبرز أهمية و ضرورة الإنتقال و المرور من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير و أخد المبادرات لحسم موقف المغرب و ذلك بالإعتماد على آليات فعالة و بتأثيرات مباشرة في المنطقة ككل خصوصا على المستويات الإقتصادية.

الخطاب الملكي السامي أشار إلى ثلاثة مبادرات مُهيكِلة بالمنطقة و ذات بعد إستراتيجي. مشروع أنبوب الغاز المغرب-نيجريا الذي، بمجرد اكتماله، سيوفر الغاز لجميع دول غرب إفريقيا ويفتح طريق تصدير جديد إلى أوروبا. مبادرة الدول الإفريقية الأطلسية في جعل الفضاء الأطلسي منطقة سلام واستقرار وازدهار اقتصادي مشترك. ثم المبادرة الملكية في تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي والتي ستوفر فرصا كبيرة للمنطقة برمتها في خلق إقتصاد إقليمي قوي كفيل بتوفير رخاء مشترك و إستقرار سياسي و أمني في منطقة الساحل.

البعد الإقتصادي و تنامي المصالح بين الدول دعامة أساسية لإستقرار سياسي ضروري و مهم بالنسبة للمغرب بإعتباره قاطرة للتنمية الإقتصادية و الإجتماعية لدول المنطقة.

عرفت المناطق الجنوبية تطورا في البنيات التّحتية من خلال الإستثمارات العمومية و المشاريع التنموية الكبرى كتوفير وسائل النقل الطرقي و الجوي والربط بباقي جهات المملكة و دعم الاستثمار الخاص و تشجيع المقاولات ومشاريع التنمية البشرية. من بين المشاريع المهيكلة بالمناطق الجنوبية الطريق السريع تزنيت ـ الداخلة والبرنامج الصناعي فوسبوكراع بالعيون و ميناء الداخلة الأطلسي.

تنمية إقتصادية ستجعل من الصحراء المغربية منطقة إستراتيجية للتكامل الإقتصادي الإقليمي كرابطة بين شمال وغرب إفريقيا. طموح المغرب مشروع و تمليه المؤهلات التي يتوفر عليها و كذلك الرغبة الملحة في الحل النهائي لملف الوحدة الترابية. حل ستكون له تداعيات مباشرة على كل دول المنطقة من خلال فرص مهمة على المستوى الإقتصادي و التنموي.

دبلوماسية حزبية وبرلمانية بكفاءات مؤهلة

الخطاب الملكي السامي نبه إلى المزيد من التعبئة و اليقظة الضروريان لتقوية مناعة المغرب و الدفاع عن حقه في صحرائه و خصوصا التصدي لمناورات خصومه. دعوة صريحة و مباشرة لتضافر جهود كل القوات الحية و المؤسسات الوطنية الحزبية و المدنية و تلك التي تمثل الدولة.

وحدة وطنية وراء صاحب الجلالة محمد السادس وفق إستراتيجية إستباقية قوامها سياسات دبلوماسية و إقتصادية قوية و مؤثرة، هي الكفيلة في الدفاع و الإنتصار للقضية الوطنية.

شدد الملك في خطابه على « أهمية الدبلوماسية البرلمانية والحزبية في كسب المزيد من الاعتراف بمغربية الصحراء، وتوسيع الدعم لمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع الإقليمي » مع التأكيد على « المزيد من التنسيق بين مجلسي البرلمان بهذا الخصوص، ووضع هياكل داخلية ملائمة، بموارد بشرية مؤهلة، مع اعتماد معايير الكفاءة والاختصاص، في اختيار الوفود، سواء في اللقاءات الثنائية، أو في المحافل الجهوية والدولية ».

التأكيد على أهمية الديبلوماسية البرلمانية و الحزبية في ملف الصحراء المغربية يدخل في إطار الجدية و تخليق العمل الحزبي الذي أسس لهما صاحب الجلالة خلال خطاب عيد العرش المجيد الذي صادف الذكرى الرابعة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه الميامين. و لكي تقوم هاته الديبلوماسية البرلمانية و الحزبية بدورها الكامل وجب توفير طاقات و أطر بشرية تشتغل وفق معايير الكفاءة و الإختصاص داخل هياكل ملائمة تتناسق فيها كل الجهود خدمةً لأجندة واحدة، قضيتنا الوطنية الأسمى و الأولى. هذا لن يتأتى إلا بإنخراط كل الفعاليات السياسية في التعبئة و اليقظة و الحسم و التبات على المواقف في وجه كل المحاولات اليائسة و الفاشلة لأعدائنا. و قد أشاد الملك في خطابه بتضامن المغاربة و تلاحمهم و تضافر جهودهم في الدفاع عن الوحدة الوطنية كما عبر جلالته عن شكره و تقديره لأبناء الصحراء على تضحياتهم و تشبتهم بوطنهم و ولائهم مما يعزز من المناعة الداخلية و يقوي اللحمة الوطنية في سبيل الوحدة الترابية للمملكة و إستقرارها.

الخطاب الملكي في افتتاح الدورة البرلمانية خطاب مؤسس لمرحلة جديدة في تناول ملف الصحراء المغربية. مرحلة ستكون حاسمة بعد توفير البيئة السليمة و القوية داخليا و خارجيا من تنمية إقتصادية و إجتماعية بالمناطق الجنوبية و تقوية الوضع الجيوستراتيجي للمغرب في العمق الإفريقي من بوابة الإستثمارات و المصالح الإقتصادية. إضافة لذلك، عرفت الديبلوماسية المغربية إنتعاشة قوية جعلت دول كبرى و مؤثرة في القرارات السياسية أن تعترف بسيادة المغرب على صحرائه.

مرحلة حاسمة بموقف حاسم شعاره التشبت بحقوق المغاربة في الصحراء دون تراجع أو تنازل و لو بحبة رمل.

*خبير إقتصادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى