العدالة المجالية في المغرب.. الاعتبارات التاريخية والمُحدّثات المعاصرة على ضوء الخطب الملكية

بدر الزاهر الأزرق*
*أستاذ محاضر في قانون الاعمال
جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء
تعتبر العدالة المجالية أو العدالة الترابية من المفاهيم المحورية في الدراسات التنموية والجغرافيا السياسية، لما لها من أثر مباشر على تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة. فهي تعكس القدرة على توزيع الموارد والخدمات الأساسية بشكل عادل بين مختلف جهات الدولة، بما يضمن تكافؤ الفرص الاقتصادية والاجتماعية ويحد من التفاوتات بين المركز والهامش، وبين المدن الكبرى والمناطق الداخلية والبوادي. ويكتسب هذا المفهوم في السياق المغربي بعدًا خاصًا، نظرًا لتاريخ المملكة الطويل من التفاوتات المجالية الناتجة عن الإرث الاستعماري وسياسات التمركز الاقتصادي والسياسي، والتي تواصلت في مرحلة ما بعد الاستقلال نتيجة ضعف التخطيط التنموي، ومحدودية المشاركة المحلية في اتخاذ القرار، وتركيز الموارد في الأقطاب الساحلية والمدن الكبرى على حساب المناطق الداخلية والمهمشة.
وقد تميزت تجربة المغرب في معالجة هذه الفوارق بخصوصياتها المرتبطة بتفرد الرؤية الملكية، إذ لعبت الخطب الملكية السنوية، وخطاب عيد العرش، دورًا استراتيجيًا في تشخيص الواقع التنموي، وتحديد أولويات التنمية، ومواكبة تنفيذ المشاريع، ومراقبة أثرها على الفوارق المجالية. كما شكلت الأوراش الملكية الكبرى، بما فيها الجهوية المتقدمة وورش الحماية الاجتماعية، أدوات عملية لتقليص الفوارق وتعزيز التنمية المتوازنة، مع إدراك أن العدالة المجالية عملية ديناميكية تتطلب متابعة مستمرة، تطوير كفاءات النخب المحلية، وتوفير الموارد اللازمة لضمان استدامة النتائج.
إن دراسة الفوارق المجالية في المغرب، من مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى عهد الملك محمد السادس، تتيح فهم تراكمات الماضي، تقييم السياسات المعتمدة، واستشراف آفاق تطوير نموذج تنموي أكثر عدالة واستدامة. ويرمي هذا البحث إلى تحليل هذه التراكمات التاريخية، وتسليط الضوء على التحديات والمعيقات، واستعراض الرؤية الملكية والسياسات العملية التي سعت إلى تحقيق العدالة المجالية، مع تقييم نتائج الأوراش الكبرى في الحد من التفاوتات وتحقيق التنمية الشاملة.
الاعتبارات التاريخية للفوارق المجالية في المغرب
يمكن فهم الفوارق المجالية في المغرب اليوم على أنها نتاج تراكمات تاريخية عميقة، بدأت منذ فترة الحماية الفرنسية والإسبانية واستمرت من خلال التحولات الاقتصادية والاجتماعية بعد الاستقلال. خلال فترة الحماية، اتجهت السياسات الاستعمارية تدريجيًا نحو تركيز النشاط الاقتصادي والبنية التحتية على الساحل، ما أدى إلى تغيرات جذرية في توزيع النخب والثروة وأسس التنمية.
أول وأهم هذه التحولات كان انتقال العاصمة السياسية من فاس إلى الرباط، وهو انتقال لم يكن مجرد تغيير رمزي، بل له آثار ملموسة على المدينة نفسها. فقد أدى إلى تفريغ فاس من نخبتها السياسية، التي كانت تشكل أساس الإدارة المحلية والروحية للمجتمع المدني. بالتوازي، شهدت المدينة تراجعًا اقتصاديًا نتيجة تحول مركز الثقل الاقتصادي من فاس إلى الدار البيضاء، حيث تمركزت الاستثمارات والمشاريع الصناعية والتجارية الكبرى. هذا التحول دفع عددًا كبيرًا من حرفيي وعمّال فاس إلى الهجرة، ما أضعف النشاط الاقتصادي المحلي وأحد من قدرة المدينة على المنافسة مع الأقطاب الساحلية الجديدة.
كما تجلت سياسة المركزية الساحلية في تحول مركز الثقل من الداخل إلى الساحل، حيث ركزت السلطات الاستعمارية جهود التنمية والبنية التحتية في المدن الساحلية الكبرى على حساب المناطق الداخلية. وقد نتج عن هذه السياسات تعاظم الهجرة القروية نحو المدن الكبرى، خاصة الدار البيضاء، مما أدى إلى ظهور أحزمة البؤس والفقر حول هذه المدن. ومع توسع المدن لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المهاجرين، استمرت التحديات المعيشية بسبب محدودية الخدمات الأساسية وفرص العمل.
نتيجة لهذه الديناميات، تمركزت الثروة والبنية التحتية في عدد من الأقطاب الكبرى، أبرزها الدار البيضاء والرباط، بينما بقيت المناطق الداخلية والبوادي مهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا. ومن جهة أخرى، أدى هذا التركيز إلى ظهور طبقة عمالية جديدة استقرت في المدن الكبرى، لتلعب دورًا محوريًا في الاقتصاد الصناعي الناشئ، لكنها في الوقت نفسه كانت عرضة للفقر والحرمان من الخدمات الأساسية.
في الوقت نفسه، استمر تفاقم الفقر في البوادي، مما دفع المزيد من السكان إلى الهجرة نحو المدن، وزاد ذلك من تضخم ساكنة الدار البيضاء والضغط على البنى التحتية والخدمات. وهكذا، ظهرت الفوارق المجالية بين القرية والمدينة، وبين الساحل الأطلسي والداخل، بما أفرز منطقًا مزدوجًا: “المغرب المركز”، حيث يتركز النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي، و”المغرب الهامش أو الظل”، أي المناطق التي عانت من التهميش على امتداد عقود، وفقًا للمنطق الاستعماري الذي قسم البلاد بين “المغرب النافع” و”المغرب غير النافع”.
هذه الفوارق، كما تؤكد الدراسات التاريخية والاجتماعية، ليست مجرد انعكاس للتوزيع الطبيعي للسكان أو الموارد، بل هي نتيجة سياسات تاريخية متعمدة، شكلت أساس التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة حتى اليوم، ووضعت تحديات كبرى أمام أي محاولة لتحقيق العدالة المجالية والتنمية المتوازنة في المملكة.
إرث الاستعمار، التحديات التنموية والتوجه نحو الجهوية
يمكن فهم الفوارق المجالية في المغرب خلال مرحلة ما بعد الاستقلال على أنها نتاج تراكمات تاريخية وسياساتية متعددة، بدأت جذورها في الحقبة الاستعمارية، وتعمقت نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها المملكة بين ستينيات وتسعينيات القرن العشرين. بعد استقلال المغرب سنة 1956، واجهت الدولة تحديات جسيمة في بناء مؤسسات قوية وإرساء التنمية الشاملة، غير أن عدم استقرار الأوضاع السياسية، وتناحر مختلف الفرقاء السياسيين، وتعدد الاضطرابات الاجتماعية أثر بشكل مباشر على الاهتمام بتفكيك وإعادة هيكلة الإرث الاستعماري، سواء على المستوى الاقتصادي أو المجالي، ما ساهم في تكريس فجوة تنموية بين مختلف مناطق المملكة
أحد أبرز مظاهر التحديات في هذه المرحلة كان احتكار المشهد السياسي من قبل نخبة معينة وحصر القرار على المركز، إلى جانب ضعف الاستراتيجيات التنموية والمخططات الاقتصادية. فقد غابت الرؤية الشاملة لتنمية المناطق الداخلية والبوادي، في حين تم التركيز على تطوير المدن الكبرى والأقطاب الساحلية، مثل الدار البيضاء والرباط وشيئاُ ما مدينة طنجة. هذا الخلل في توجيه السياسات أدى إلى دخول المغرب مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، دقت ناقوس الخطر وسرعت بإعادة النظر في أساليب تدبير القرار السياسي والاقتصادي، وإعادة التفكير في السياسات التنموية لتحقيق نوع من التوازن المجالي.
على المستوى الاقتصادي، تركزت الاستثمارات والصناعات والخدمات المالية في المدن الكبرى، بينما ظلت المناطق الداخلية والقروية تعاني من محدودية الفرص الاقتصادية، ما أدى إلى ارتفاع معدل الهجرة القروية نحو المدن الساحلية وكذلك نحو الخارج. هذه الهجرة ساهمت في تضخم المدن الكبرى، وأفرزت أحزمة الفقر والبؤس حول الأقطاب الاقتصادية، في حين ظلت القرى والمناطق الداخلية مهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا.
أما على مستوى البنية التحتية، فقد ركزت الدولة خلال هذه المرحلة على تطوير الطرق والمواصلات والكهرباء والماء في المدن الكبرى، تاركة المناطق القروية دون شبكات فعالة، مما عزز من التفاوتات بين المجالين الحضري والقروي. وبالموازاة، استمر تفاوت الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة، حيث كانت المدن الكبرى مجهزة بالمدارس والمستشفيات، في حين بقيت المدارس القروية والمراكز الصحية في المناطق النائية تعاني من نقص التجهيزات والكفاءات، مما أثر على قدرة هذه المناطق على اللحاق بركب التنمية.
كما أدى هذا التركيز على المدن الكبرى إلى ظهور طبقة عمالية حضرية جديدة، استقرت في الأقطاب الصناعية، وأسهمت في تطوير الاقتصاد الوطني، لكنها في الوقت نفسه كانت معرضة للفقر والحرمان من الخدمات الأساسية، في ظل غياب سياسات اجتماعية شاملة تستهدف الحد من التفاوتات المجالية.
وفي هذا الصدد، من الجدير التذكير بأن الملك الحسن الثاني، حاول معالجة الفوارق المجالية من خلال التوجه نحو الجهوية كأداة لإعادة التوازن بين المناطق المختلفة وتوسيع قاعدة المشاركة في اتخاذ القرار. فقد أدرك جلالته، في أعقاب تراكم التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والفوارق الواضحة بين المدن الكبرى والمناطق الداخلية، أن النموذج المركزي التقليدي لم يكن كافيًا لتقليص الهوة بين مختلف الجهات، وأن سياسات التنمية الموجهة من المركز وحده لم تستطع تحقيق توزيع عادل للموارد أو ضمان استفادة جميع المناطق من المشاريع التنموية.
لقد جاء تعديل دستور 1996 ليشكل خطوة مهمة في هذا الاتجاه، إذ أقر دستوريًا توسيع صلاحيات الجهات وتعزيز دورها في التخطيط والتنمية المحلية. وقد نص التعديل على ضرورة تمكين الجهات من المشاركة في اتخاذ القرار وتدبير الشأن المحلي، بما يسمح لكل جهة بالاستفادة من مواردها الطبيعية والبشرية وتحديد أولوياتها التنموية وفق خصوصياتها. وكان الهدف الأساسي من هذا التعديل هو توفير آلية دستورية لتخفيف التفاوتات المجالية، وضمان توزيع أكثر عدالة للبنية التحتية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية بين المدن الكبرى والمناطق الداخلية والبوادي.
وفي هذا الصدد، حاول الملك الحسن الثاني عبر هذا التوجه نحو الجهوية أن يوازن بين التمركز السياسي التقليدي وبين متطلبات التنمية المحلية، بحيث تصبح الجهات فاعلًا رئيسيًا في إدارة مواردها، مع احتفاظ المركز بدوره الاستراتيجي في التنسيق العام وتحديد السياسات الكبرى. وقد اعتُبر هذا التعديل خطوة أولى على طريق اللامركزية التدريجية، والتي مهدت لاحقًا لمرحلة الجهوية المتقدمة في عهد الملك محمد السادس، حيث تم تعميق صلاحيات الجهات لتشمل مجالات واسعة مثل الاستثمار، التخطيط العمراني، وتنمية البنية التحتية المحلية.
ومع ذلك، فإن تطبيق هذا التوجه في عهد الحسن الثاني ظل محدود التأثير، بسبب ضعف مؤسسات الجهات، ومحدودية الموارد المالية، وصعوبات التخطيط، والتمركز التقليدي للقرار في العاصمة. غير أن الدستور المعدل لسنة 1996 شكل حجر أساس لمرحلة لاحقة، تم فيها تعزيز الجهوية وتفعيلها بشكل أكثر فعالية، ليصبح مفهوم العدالة المجالية جزءًا من الرؤية الملكية الشاملة للتنمية المستدامة. يمكن القول إن مرحلة ما بعد الاستقلال حتى نهاية عهد الملك الحسن الثاني مثلت مرحلة محورية في تكوين الفوارق المجالية بالمغرب. فقد تداخل فيها إرث الاستعمار مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الموجهة نحو المدن الكبرى، ما ساهم في تعميق التفاوتات بين مختلف الجهات. في المقابل، شكل التوجه نحو الجهوية، وتعديل دستور 1996، محاولة استراتيجية لتدارك هذه الفوارق ومنح الجهات دورًا أكبر في التنمية المحلية، وهي خطوة وضعت أسسًا لاحقة لتفعيل الجهوية المتقدمة وتحقيق العدالة المجالية في المملكة خلال عهد الملك محمد السادس.
من مرحلة ما بعد الاستقلال إلى الجهوية المتقدمة
مع تولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس العرش سنة 1999، شهد المغرب مرحلة جديدة من التعاطي مع مسألة العدالة المجالية، حيث أصبحت قضية الفوارق بين المدن الكبرى والمناطق الداخلية والبوادي محورًا رئيسيًا في صياغة السياسات التنموية. فقد أدركت الرؤية الملكية أن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا شملت كافة الجهات، وأن معالجة التفاوتات المجالية هي شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة والشاملة. في هذا السياق، جسدت الخطب الملكية السنوية، وخطاب عيد العرش على وجه الخصوص، أداة استراتيجية متعددة الأبعاد، تجمع بين التشخيص الدقيق للوضعية الاقتصادية والاجتماعية، وتحديد أولويات العمل التنموي، والمواكبة المستمرة لمراحل التنفيذ، مع مراقبة دقيقة للأثر التنموي على الأرض. وقد ركزت هذه الخطب على تصوير واقع “مغرب بسرعتين”، مؤكدة على التفاوت الواضح بين الأقطاب الاقتصادية والمدن الكبرى من جهة، والمناطق الداخلية والبوادي من جهة أخرى، ومشددة على ضرورة وضع برامج تنموية تراعي الخصوصيات المحلية، وتعزز دور الجهة في التخطيط واتخاذ القرار، بما يضمن توزيعًا عادلًا للموارد والبنى التحتية والخدمات الأساسية.
رغم وضوح الرؤية الملكية، ظل المغرب يواجه مجموعة من التحديات الجوهرية التي أعاقت تنزيل برامج العدالة المجالية على النحو الأمثل. من أبرز هذه التحديات ضعف الكفاءات المحلية المؤهلة لإدارة المشاريع الجهوية بفعالية، واستمرار التمركز الإداري والقرار، ومحدودية الموارد المالية المتاحة للجهات، بالإضافة إلى الفوارق الاقتصادية العميقة بين المناطق الساحلية والداخلية. وقد شكلت هذه المعوقات اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تفعيل الجهوية المتقدمة وتوزيع التنمية بشكل متوازن، وهو ما استدعى تبني حلول استراتيجية ومتكاملة.
لمواجهة هذه التحديات، أطلقت المملكة مجموعة من الأوراش الملكية الكبرى، التي شكلت دعامة أساسية للسياسة التنموية، ومن أبرزها: تفعيل الجهوية المتقدمة، تطوير البنية التحتية، تحسين جودة التعليم والصحة، وإطلاق ورش الحماية الاجتماعية. وقد تم تصميم هذه الأوراش بطريقة متكاملة تهدف إلى معالجة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات، مع تعزيز قدرة الجهات على إدارة مواردها بشكل مستقل وفق خصوصياتها، بما يسهم في تحقيق العدالة المجالية والمجتمعية على حد سواء. كما ركزت هذه الأوراش على إدماج الفئات الهشة والفقيرة في شبكة الأمان الاجتماعي، وتوفير الخدمات الأساسية في المناطق المهمشة، وهو ما يعكس شمولية الرؤية الملكية في الربط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقد أثبتت هذه البرامج والأوراش نتائج ملموسة على مستوى البنية التحتية والخدمات الاجتماعية، إذ تم تحسين شبكة الطرق والمواصلات، وتعزيز تغطية الكهرباء والماء، وتوسيع الوصول إلى التعليم والصحة في الجهات الداخلية والمناطق النائية، إلى جانب تحفيز الاستثمار المحلي وخلق فرص اقتصادية جديدة في المناطق المهمشة. ورغم أن بعض الفوارق لا تزال قائمة، فإن هذه الجهود تعكس إدراكًا عميقًا بأن العدالة المجالية ليست مجرد مشروع نظري، بل عملية ديناميكية تتطلب تنسيقًا مستمرًا، متابعة دقيقة، تطوير كفاءات النخب المحلية، وتوفير الموارد الكافية لضمان استدامة التنمية وتقليص الفوارق بشكل فعلي وملموس.
في المحصلة، تظهر دراسة الفوارق المجالية في المغرب منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى عهد الملك محمد السادس أن هذه الفوارق ليست مجرد انعكاس طبيعي لتوزيع السكان أو الموارد، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وسياسية متشابكة، بدأت في الحقبة الاستعمارية واستمرت نتيجة التركيز السياسي والاقتصادي في المدن الكبرى، وضعف التخطيط التنموي، وغياب المشاركة الفعلية للجهات المحلية في اتخاذ القرار. وقد أفرز هذا الواقع تقسيماً يعكس التفاوتات في الفرص الاقتصادية والاجتماعية والبنية التحتية والخدمات الأساسية بين المناطق المختلفة.
إن تجربة المغرب الملكية، سواء في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أو جلالة الملك محمد السادس، توضح أن العدالة المجالية ليست هدفًا منفصلًا، بل أداة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة والشاملة. وقد شكلت التوجه نحو الجهوية، التعديلات الدستورية، والخطب الملكية، والأوراش الكبرى بما فيها ورش الحماية الاجتماعية، محورًا استراتيجيًا لتحقيق هذا الهدف، من خلال تمكين الجهات، تدارك الفوارق، وتحسين مستوى الخدمات والبنية التحتية في المناطق المهمشة.
ورغم الإنجازات المحققة، لا تزال بعض التحديات قائمة، منها ضعف الكفاءات المحلية، محدودية الموارد، والتمركز الإداري التقليدي، ما يفرض على الدولة الاستمرار في تعزيز الحكامة، رفع قدرات النخب المحلية، وتوفير الموارد اللازمة للجهات لضمان استدامة البرامج التنموية. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن المغرب يسير نحو نموذج تنموي أكثر توازنًا وعدالة، حيث تصبح العدالة المجالية عنصرًا محوريًا في الرؤية الملكية للتنمية، وركيزة أساسية لمستقبل مستدام يضمن تكافؤ الفرص لجميع المواطنين في مختلف جهات المملكة.