الغنبوري: التمويلات المبتكرة بين بريق الخطاب وعبء الفاتورة المؤجلة

جسين العياشي

في خضم السرد الرسمي الذي يقدّم “التمويلات المبتكرة” كحلّ سحري يبدّد كل أزمات التمويل، يقدّم الخبير الاقتصادي علي الغنبوري قراءة تفكيكية تبقي الأقدام على الأرض: هذه الأدوات قد تمنح مالاً سريعاً وتطلق مشاريع كبرى بلا انتظار طويل لتراكم رأس المال، لكنها،في جوهرها، حلول ظرفية تُرحّل الكلفة إلى الغد ولا تبني استدامة مالية.

من هذا المنطلق، يوضح  الغنبوري، أن جوهر “الابتكار” هنا هو الاستدانة بثوب جديد: مستشفى يُنجَز بشراكة اليوم، يظل عبؤه المالي دفعاتٍ سنويةً تمتد لسنوات، وقرض يُقتنى الآن، يعود بفوائد تنخر المداخيل لاحقاً. لذلك تبدو الحماسة غير متناسبة مع الحقائق المحاسبية؛ ومن يراهن على هذه الأدوات بوصفها عصاً سحرية “كمن باع القِرد.. ثم ضحك على من اشتراه”.

الاستدامة، كما يشدد عليها الخبير، لا تنبع من موارد عَرَضية تتبخر مع أول أزمة، بل من مداخيل قارة تُبنى بتوسيع الوعاء الضريبي وتحريك عجلة الاقتصاد الرسمي وإدماج غير المهيكل. المقصود ليس زيادة الضغط على الملتزمين أصلاً، بل إدخال من هم خارج المنظومة، وتجفيف ينابيع التهرب والتملص، ومراجعة الإعفاءات غير المجدية، وتبسيط المساطر حتى يصبح الالتزام الضريبي سهلاً ومفهوماً. كل شركة جديدة وكل منصب شغل مُصرَّح به يعني إيراداً متجدداً للدولة، فتدور دورةٌ صحية تدعم الميزانية من تلقاء نفسها.

لا ينفي ذلك جدوى “التمويلات المبتكرة” بالمطلق؛ مكانُها الطبيعي، حسب النتحدث، أن تكون مكمِّلاً مدروساً يُوجَّه لمشاريع ذات مردودية موثَّقة وقابلة للقياس، تحت سقف حوكمة صارمة: من خلال شفافية في كشف الالتزامات طويلة الأجل، اختبارات “القيمة مقابل المال”، تتبّع للتكاليف الخفية، ورقابة تُوازن بين جاذبية الاستثمار وحماية المال العام. ما عدا ذلك، فنحن لا نحلّ العجز بل نغطّيه مؤقتاً ونرحّل الفاتورة إلى أكتاف الأجيال المقبلة.

خلاصة علي الغنوري، تتمثل في أن الجرأة المطلوبة اليوم لن تكون في إعادة تغليف الاقتراض بعبارات براقة، بل في إصلاحاتٍ تعظّم القاعدة الجبائية، وتنعش الاستثمار المنتج، وتحوّل اقتصاد الظل إلى اقتصاد معلَن. عندها فقط تصبح أدوات التمويل—مهما كان “ابتكارها”—وسيلةً في خدمة سياسة رشيدة، لا بديلاً عنها. وإلا سنبقى نخيط كسوةً من قماش الكفن: جميلةٌ في الواجهة… ثقيلةُ الكلفة عند الحساب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى