الوباء الذي لا ينتهي: كيف أثّر كوفيد على صحة الإنسان رغم التعافي (دراسة)

حسين العياشي

في وقتٍ تتزايد فيه الحالات المرضية وسط صمت رسمي مستمر، بدأ الشعور العام بالقلق والريبة يهيمن على المجتمع. لا يوجد تواصل من الجهات الصحية المعنية ولا توضيحات حول ما يمر به الناس، من تدهور مفاجئ في مناعتهم أو ظهور أمراض غامضة ومتكررة. مع هذا الغياب المقلق للمعلومات، ظهرت دراسات علمية حديثة تحاول فك لغز هذا الاضطراب الصحي الذي يعم العالم، وتقدم تفسيرًا مثيرًا للقلق: قد لا يكون فيروس «سارس-كوف-2»، المسبب لوباء كوفيد-19، مجرد عدوى عابرة تنتهي بالتعافي، بل قد يكون عاملًا محدثًا لخلل عميق في جهاز المناعة يشبه في بعض جوانبه ما يسببه فيروس نقص المناعة البشرية (HIV).

هذا التشبيه، الذي أطلق عليه بعض الباحثين مصطلح «الإيدز المحمول جوًا»، لا يهدف لإثارة الخوف، بل لتسليط الضوء على التشابهات البيولوجية والمناعية بين الفيروسين، وما قد تحمله من تداعيات بعيدة المدى على صحة الإنسان والمجتمعات. ويكمن التشابه الأبرز بين الفيروسين في تأثيرهما على جهاز المناعة: كلاهما يعمل على إرباك منظومة الدفاع المناعي، ولكن بطرق مختلفة. بينما يقوم فيروس HIV بالقضاء تدريجيًا على خلايا CD4 المناعية على مدار سنوات، فإن فيروس سارس-كوف-2 يتسبب في اضطراب واسع النطاق في جهاز المناعة في غضون أيام أو أسابيع، عن طريق إضعاف الخلايا المناعية وتدمير توازنها الوظيفي. هذه الاضطرابات قد لا تقتصر على مرحلة الإصابة الحادة، بل يمكن أن تستمر لشهور بعد التعافي الظاهري، وهي الظاهرة المعروفة بـ «كوفيد الطويل».

ويشير العلماء إلى أن آثار فيروس سارس-كوف-2 لا تقتصر على الجهاز التنفسي فقط، بل تمتد لتشمل الدماغ، القلب، الأوعية الدموية، والجهاز العصبي. فقد يتعرض المصابون الذين ينجون من الأعراض الحادة إلى معاناة مستمرة بعد أشهر من الإصابة، حيث يعانون من إرهاق مزمن، فقدان ذاكرة، اضطرابات في التركيز، وآلام عضلية متواصلة. كما تظهر دراسات أخرى أن تكرار الإصابة بالفيروس يؤدي إلى تراكم الأضرار داخل الجسم، مما يعمّق خلل المناعة ويجعل الجسم أكثر عرضة للعدوى بأنواع جديدة من الفيروسات والأورام السرطانية.

أما التشابه الأكثر إثارة للقلق بين الفيروسين فهو بقاؤهما في الجسم بعد التعافي الظاهري. فبينما يندمج فيروس HIV في الجينوم البشري ليصبح جزءًا من خلايا الجسم، تشير الدراسات إلى أن سارس-كوف-2 قد يظل متخفيًا في أنسجة الجسم، من الدماغ إلى الأمعاء، مُسببًا التهابات مزمنة وأعراضًا متقطعة يصعب تفسيرها. لقد رُصدت بقايا الفيروس في أجسام بعض المرضى بعد أكثر من عام من الإصابة، مما يوحي بوجود «خزانات» فيروسية خفية قد تفسر استمرار الأعراض لفترات طويلة.

وعلى الصعيد العصبي، تظهر أوجه التشابه بين اضطرابات الإدراك المرتبطة بفيروس نقص المناعة (HAND) وبين تلك التي يُحدثها كوفيد الطويل (SAND). يعاني المرضى من ضعف في الذاكرة والتركيز، وصعوبة في اتخاذ القرارات، بالإضافة إلى تغييرات في بنية الدماغ شبيهة بتلك التي تُلاحظ في حالات الشيخوخة المبكرة. بعض الباحثين يشيرون إلى أن الفيروسين قد يتبعان مسارات متقاربة في التأثير على الخلايا العصبية، من خلال الالتهاب المزمن ونقص الأوكسجين في الدماغ، مما يثير تساؤلات حول المستقبل الصحي العصبي للأجيال التي عاشت في ظل الوباء.

وفي حين أن فيروس HIV يدمر جهاز المناعة تدريجيًا على مدار سنوات، يبدو أن سارس-كوف-2 قادر على إحداث «شيخوخة مناعية» سريعة في بضعة أشهر فقط. فالتعرض المتكرر للفيروس يظهر علامات الشيخوخة والإرهاق البيولوجي المبكر في الخلايا المناعية، وهو ما يُضعف قدرة الجسم على مقاومة الأمراض ويؤدي إلى تطور الاضطرابات المزمنة التي تذكرنا بأمراض التقدم في السن.

لكن لا يمكن تجاهل السياق الاجتماعي والسياسي لهذه الظواهر الصحية. فكما صاحب ظهور الإيدز في الثمانينيات موجة من الوصم والتجاهل، شهد مرضى كوفيد الطويل نفس المعاناة: إنكار رسمي، تقليل من معاناتهم، واتهامات لهم بالمبالغة. ومع اتساع الفجوة بين المعرفة العلمية والسياسات الصحية، أصبح ملايين المصابين في مواجهة أمراض مجهولة لا تجد الاعتراف أو العلاج المناسب.

هذه التجربة تذكرنا، رغم اختلاف طبيعة الفيروسات، بأن الأوبئة ليست مجرد أحداث بيولوجية، بل هي اختبارات أخلاقية للمجتمعات وقدرتها على الاستجابة العلمية والإنسانية. فبينما تحول الإيدز إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه بفضل الأدوية الحديثة، لا يزال كوفيد-19 يمثل تحديًا معقدًا لا يوجد له علاج حاسم حتى الآن، مع تهديد طويل الأمد للمناعة البشرية.

في النهاية، أصبح من الواضح أن الحديث عن «نهاية الجائحة» كان متسرعًا، فالفيروس لم يختفِ بل تغير شكله ودوره. مع كل موجة جديدة، تزداد الأدلة على أن سارس-كوف-2 ليس مجرد فيروس عابر، بل هو عامل بيولوجي واسع التأثير يعيد تشكيل علاقة الإنسان بصحته وجسده. إن فهم ما يحدث اليوم يتطلب شجاعة علمية مماثلة لتلك التي غيّرت مسار التعامل مع الإيدز قبل عقود، لأن تجاهل هذه الإشارات قد يعيدنا إلى أخطاء الماضي، ولكن على نطاق أكبر.

في النهاية، لا يتعلق الأمر بإطلاق أوصاف مثيرة مثل «الإيدز المحمول جوًا»، بل يتعلق بطرح الأسئلة الصحيحة حول المستقبل الصحي للبشرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى