بلافريج: البرلمان مكبّل برقابة ذاتية والفاعلون السياسيون أسرى مصالحهم

حسين العياشي
في بث مباشر عبر منصة “ديسكورد” جذب آلاف المتابعين، تحدث عمر بلافريج بصوت هادئ وحاد في آنٍ معاً عن تجاربه وانطباعاته ومخاوفه. لم يكن الخطاب موجهاً إلى نخب السياسة وحدها، بل إلى كل من يشعر بأن الفضاء العام يحتضر: إلى الشباب الذي خرج يطالب بحقوقه، وإلى السياسيين الذين صاروا يفضلون الحماية على المواجهة. قال بلافريج إن ما حصل من حراك شبابي أثبت أن الأرض ما تزال خصبة، وأن الأمل يمكن أن يُعاد زرعه في قلوب الفاعلين الجدد، مؤكداً أن المشهد الراهن يحمل بين طياته فرصة لإعادة قراءة السياسة كمشروع خدمة عامة لا كحلبة مصالح شخصية.
لم يكتفِ بلافريج بإطلاق عبارات تحفيزية؛ فقد انتقل سريعاً إلى قراءة نقدية للمؤسسة البرلمانية، انطلاقا من تجربته داخلها، معتبراً أن الحقوق الدستورية والصلاحيات المنصوص عليها تفوق بكثير ما يُمارَس فعلاً. في كلامه قطعات من مرارة: “البرلمان اليوم مكبَّل برقابة ذاتية يقيمها الداخلون إليه أنفسهم، خوفاً من المساس بمصالحهم الاقتصادية؛ ومن يحمّل أسباب القصور إلى جهات عليا، إنما يهرُب من مسؤوليته”. هذا الموقف الشخصي لم يأتِ من فراغ؛ ففي تجربته النيابية لم يشعر بحسب قوله بأي ضغوط خفية تُمسك بزمام مواقفه، ما جعله أكثر قناعة بأن ضعف الفعل السياسي ناتج عن اختيارات داخلية قبل أن يكون نتيجة تأثير خارجي.
وعن محاولاته لإحداث انفراج سياسي حقيقي، اعترف بلافريج بصراحة مؤلمة: حاول وأخفق. لم ينجح في إقناع الفاعل السياسي بفتح صفحة المعتقلين السياسيين ولا بضم ملف معتقلي حراك الريف إلى طاولة الحلول الوطنية. “بذلت جهداً كبيراً، لكنني فشلت في مقارعة منطق المصالح”، قالها وهو يعبر عن إحباط جيلٍ آمن بالتحول لكنه اصطدم بجدار مصالح متجذرة. وقد ربط هذا الفشل بما رآه من هيمنة منطق ذاتي على أداء كثير من النواب، حين تحولت مداخلاتهم البرلمانية في جلسات ذات حساسية وطنية إلى منابر دفاع عن مصالح ومكتسبات. هذا الواقع، برأيه، ليس سوى ثمرة لضعف المشاركة السياسية العامة، التي تترك فراغاً تُنتج عنه نخب لا تملك الجرأة ولا الرؤية.
على مستوى البرامج والأولويات، ظل بلافريج متمسكاً بخطٍ تحولي واضح: العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية والضريبة على الثروة كمدخل للتضامن بين الأجيال والفئات. قال إن إخفاقه في فرض هذا المنحى لم يكن نتيجة قلة وضوح فكري، بل رفض سياسي صريح لأن مقترحات الرفاه الجماعي تمس مصالح خاصة. وتساءل بصوتٍ استفهامي موجع: “كيف نركب قطاراً فائق السرعة نحو المستقبل بينما لا يصل القطار العادي إلى مدن محورية؟” كانت هذه الجملة أكثر من تشبيه؛ إنها استنكار لغياب العدالة في توزيع التنمية.
لم يغفل بلافريج تقييم المشهد الحزبي: أحزاب غير قادرة على تجديد النخب، وعراقيل في تأسيس أحزاب جديدة، وتحكم أحزاب قائمة في فضاء لا تحتمل منافسين. هذا الوضع، يقول، هو الذي يولد عزوفاً وفجوة بين المواطنين والمؤسسات. ومن هنا جاء قراره الانسحاب المؤقت من الممارسة السياسية: “وهبت السياسة جهدي كاملاً، والآن حان الوقت لأن يحمل غيري المشعل”. الانسحاب إذن ليس هروباً بل تسليم الراية لشباب يمكنه أن يعيد تركيب الحقل السياسي بشروط جديدة.
ولكن الانسحاب لا يعني الصمت. بلافريج طرح مطالب عاجلة كمدخل لإعادة الاعتبار للمشهد: انفراج سياسي شامل يفضي إلى عفو عام، وقف التضييق على الصحفيين، وإعادة الحياة لصلاحيات البرلمان كي لا يتحول إلى مسرح خارجي بلا وزن دستوري. هذه قائمة مختصرة لكنها تحمل رسالة واحدة: إصلاح السياسة مرهون بجرأة في اتخاذ الخيارات وبإخلاص في خدمة المصلحة العامة.
المحدِّث اختتم بدعوة لا تُخفى عليها نبرة حزن الأمل: لا تغيير حقيقي دون نخب جديدة ووضع أولويات اجتماعية واقتصادية منصفة. ولأن السياسة، في جوهرها، ليست مجرد إدارة مصالح بل التزام أخلاقي واجتماعي، فإن ما راهن عليه بلافريج في بثه المباشر ليس أقل من محاولة لاستعادة ضمير جماعي قادر على تحويل الغضب والاحتجاج إلى برنامج وطني للانفراج والإصلاح.