تقرير المجلس الأعلى للحسابات.. أرقام تتحسّن دون أثر ملموس: أين تذهب فعالية الإنفاق العمومي؟

حسين العياشي
قدّم المجلس الأعلى للحسابات، في تقرير تركيبي جديد حول تنفيذ قانون المالية برسم سنة 2023، صورة مكثفة عن حال المالية العمومية: عجز يتقلّص، موارد ترتفع، دين يتضخّم، واستثمار عمومي ما زال لا يحقق كل ما وُعد به. التقرير لا يكتفي بتسجيل الأرقام، بل يضع أصبعه على مواطن القوة والخلل، ويقترح مسارًا واضحًا لإصلاح طريقة إعداد السياسات وتنفيذها وتتبعها.
التقرير، يشير إلى أن عجز الميزانية سجّل خلال 2023 حوالي 64,2 مليار درهم، أي ما يعادل 4,4% من الناتج الداخلي الخام، مقابل 71,5 مليار درهم (5,4%) سنة 2022. ويعزو التقرير هذا التراجع بالأساس إلى ارتفاع المداخيل الضريبية وغير الضريبية، إلى جانب فائض الحسابات الخصوصية للخزينة، وموارد “تمويلات مبتكرة” بلغت 25,4 مليار درهم.
وفي المقابل، بلغ دين الخزينة 1.016,6 مليار درهم، بزيادة 66,4 مليارًا عن السنة السابقة، لكن نسبته إلى الناتج الداخلي الخام تراجعت من 71,6% إلى 69,5%. ويُشكل الدين الداخلي 75% من الإجمالي، أي ما يقارب 763 مليار درهم، فيما يمثل الدين الخارجي 25% بحوالي 253,6 مليار درهم.
كما بلغت موارد الميزانية العامة 485,2 مليار درهم، منها 338,3 مليار درهم موارد عادية بنسبة تحصيل تجاوزت 114% من التقديرات. وشكلت المداخيل الجبائية 81% من الموارد العادية، حيث ارتفعت الضرائب المباشرة، وعلى رأسها الضريبة على الشركات والضريبة على الدخل، كما تحسنت الضرائب غير المباشرة مدفوعة بزيادة عائدات الضريبة على القيمة المضافة ورسوم التبغ، إضافة إلى ارتفاع إيرادات التسجيل والتمبر.
أما المداخيل غير الجبائية، فقد بلغت 63,4 مليار درهم، أغلبها من عمليات تفويت ممتلكات الدولة وأرباح المؤسسات العمومية.
في حين، بلغت النفقات المنجزة من طرف الميزانية العامة 532,9 مليار درهم، أي بزيادة 15,2% عن سنة 2022. وتوزعت هذه النفقات بين الأجور (28,5%)، وخدمة الدين (23%)، والاستثمار (22,3%)، والتكاليف المشتركة (12,5%)، ثم المعدات والنفقات المختلفة (11,1%).
من جهتها، ارتفعت اعتمادات الاستثمار إلى 119,2 مليار درهم (+24,1% مقارنة بسنة 2022)، إلا أن نسبة تنفيذها لم تتجاوز 82,5% عند احتساب تحويلات التكاليف المشتركة، وتنخفض إلى 72,5% دونها، ما يعكس استمرار التعثر في إنجاز العديد من المشاريع، خاصة في قطاعات الصحة (46,8%)، وبرامج الطفولة والشباب والمرأة (47,3%)، والتعليم (63,1%).
أفاد التقرير بأن عدد الحسابات الخصوصية للخزينة استقر عند 69 حسابًا، محققة بذلك مداخيل بقيمة 181,6 مليار درهم مقابل نفقات بـ151,7 مليارًا، مما رفع الرصيد المتراكم إلى حوالي 194,8 مليار درهم.
ويرى المجلس أن تراكم هذه الأرصدة يعكس ضعف التوازن بين الموارد والنفقات المبرمجة، ويطرح تساؤلات حول النجاعة والشفافية في توظيف هذه الأموال.
ومن بين النقاط اللافتة في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ما يتعلق بأداء مرافق الدولة ذات الاستغلال المستقل، التي انخفض عددها سنة 2023 إلى 171 مرفقًا، بعد أن كانت 173 مرفقًا سنة 2022. ويتركز حوالي 91 مرفقًا منها في قطاع الصحة، مثل المستشفيات الجامعية والمراكز الاستشفائية الإقليمية، فيما يضم قطاع التعليم والتكوين حوالي 44 مرفقًا، تشمل المدارس العليا والمؤسسات الجامعية ذات الطابع الإداري.
كشف التقرير أن بعض هذه المرافق تراكم فوائض مالية كبيرة تفوق حاجياتها الفعلية، دون أن يتم إعادة توجيهها نحو قطاعات أو مشاريع أكثر أولوية، ما يطرح إشكالية في إدارة الموارد وضبط البرمجة. في هذا اللإطار طرح المجلس فكرة تسقيف الموارد الذاتية في بعض الحالات، حتى لا تتحول إلى خزائن مجمدة للأموال بدل أن تكون أداة لخدمة المرفق العام وتجويد خدماته.
وفي إطار توصياته لإصلاح المنظومة، دعا المجلس إلى تحسين دقة توقعات المداخيل والنفقات، وتقييم النفقات الجبائية مقارنة بالميزانياتية، وتقليص عدد الحسابات الخصوصية وإدماج نفقاتها الاعتيادية في الميزانية العامة. كما شدد على ضرورة وضع استراتيجية وطنية موحدة للاستثمار العمومي، وتدقيق معطياته، ووضع إطار قانوني صارم لتدبير المشاريع ومتابعتها.
ختاما، يرى المراقبون، أن الأرقام التي يعرضها التقرير تُطمئن ظاهريًا: عجز أقل ونمو في الموارد ونسبة دين أدنى. لكن “الطمأنينة” لا تُصرف خدماتٍ أفضل إن ظلّ الاستثمار العمومي يتأخر عن وعوده، مع مواصلت الحسابات الخصوصية تكديس الأرصدة بدل تحويلها إلى تجهيزات ومدارس ومستشفيات قيد الاستغلال. ما يحتاجه المواطن في النهاية ليس فقط ضبط المؤشرات الكلية، بل جودة إنفاق تُرى وتُلمس: صفقات تُدبّر بمعايير القيمة مقابل المال، ومشاريع تُبرمج وتُتابع وتُقيّم علنًا، ومساءلة شفافة تربط كل درهم يُجبى بنتيجة تُحَسّن حياة الناس. بدون ذلك، سنبقى نُحسّن “الشكل” المالي فيما يظلّ “المضمون” اليومي،خدمةً وتعليمًا وصحةً، في الصفوف الخلفية.





