
فاطمة الزهراء ايت ناصر
مع انبلاج الفجر، وبين تدرجات الضوء الذهبي الذي بدأ يُغرق جبال أصديف، بجماعة إزناكن قيادة وسلسات ورزازات دبّت الحياة في الدوار بنبض استثنائي.
لم يكن يومًا عاديًا. إنه يوم “تويزي”، الموعد الجماعي الذي يجمع الأجساد والقلوب من أجل الأرض، من أجل الطريق، ومن أجل إعادة إحياء ما توقف لسنوات.

بدأ اليوم مبكرًا، على غير العادة. لا شيء يشبه رنين المنبهات، بل رنين آخر.. أهازيج دينية أمازيغية تصدح بها الحناجر أثناء السير نحو موقع الأشغال. الجميع يردد الصلاة على النبي، وتعلو الهمم شيئًا فشيئًا كلما اقتربوا من الطريق التي ضربتها السيول أخيرًا.
منذ الساعات الأولى، تحركت الساكنة بكل فئاتها، الصغار يسبقون الخطى، يحملون قنينات الماء إلى موقع الأشغال، والنساء يشرعن في تجهيز الفطور الجماعي، بينما الرجال يخرجون في صفوف متراصة، يحملون على أكتافهم أدوات البناء، مجارف، معاول، وأدوات يدوية تُثبت أن التضامن لا يحتاج معدات ضخمة، بل إرادة فولاذية.
ارتفعت الأصوات بالصلاة على النبي في أجواء روحانية يعتبرها الساكنة بداية مباركة ليومهم الشاق..”صلّو على النبي يا ناس الخير” و “اللهم صل وسلم على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون” و أهازيج دينية أمازيغية تتكر طيلة الطريق، يرددها الكبار والصغار.

الطريق التي مزقتها الأمطار الأخيرة، كانت في أمسّ الحاجة لإعادة الترميم. وعلى امتداد يومين متتاليين، تجندت سواعد الساكنة.
الرجال يرصّون الحجارة، يحفرون الأرض، يثبتون التربة، دون توقف. لا صوت يعلو على صوت العمل، ولا راحة إلا عند حلول الظل.
العمل كان جماعيًا منظمًا، بلا تعليمات سلطوية ولا مراقبة خارجية. ما يُحرّك الجميع هو الشعور بالانتماء، وبأن هذه الأرض تستحق أن تُخدم بالأيدي والقلوب.
في الجهة الأخرى، كانت النساء يُجدنّ ما يُجِدن، موائد منسقة ببساطة، مشاهد متكررة من التشارك في إعداد الطعام، الفطور يُوزع في الصباح، والغداء بعد الظهر.
محمد حمنكاري، رئيس جمعية “أصديف للرياضة والثقافة والأعمال الاجتماعية”، عبّر ل”إعلام تيفي” عن أهمية عودة هذا التقليد بعد سنوات من الانقطاع، قائلا: “تويزي ممارسة متجذرة في تاريخ الأمازيغ، وهي فعل جماعي حر، لا نفرض فيه شيئًا على أحد”.
وأكد أن من يملك يساهم، ومن لا يملك فهو معفى. نحن لا نُكلّف أحدًا، بل نُحرّك قناعة الناس. والهدف ليس فقط ترميم الطريق، بل تجديد صلة الرحم، وتفريغ الطاقة السلبية، وبثّ روح المحبة والتلاحم.”

ويضيف بنبرة مؤثرة: “ربما الطريق ستتلف بعد سنة، لكن الانسجام الذي عشناه في هذين اليومين لا يُنسى. تلك اللحظات الجماعية هي ما يبقى في ذاكرة الساكنة، لا الإسمنت ولا الحجر.”
وقال:”أجمل ما في “تويزي” هو أن لا أحد يقف متفرجًا. الكل شريك. الكل مساهم. “تويزي” حوّلت الدوار إلى كيان واحد. لا فرق بين غني وفقير، ولا بين مقيم وغائب”.
وأشار إلى أن هذه الطريق كانت تمثل عائقًا حقيقيًا لساكنة الدوار، فبمجرد أن تهطل الأمطار، تتحول إلى مستنقع يصعب المرور منه، اليوم، بفضل مبادرة تويزي، نعيد ترميمها بأيدينا، ليس فقط لتسهيل التنقل.

أطفال يركضون بالماء ومراهقون يحاولون ما أمكن أن يجاوروا الكبار رجال ينقلون الحصى، ووجوههم مزيج من الإرهاق والرضا
امرأة تُغسل الأواني، وأخرى تعد الشاي بالنعناع شيخ جالس قرب الطريق يُراقب الأشغال بعد التعب وأطفال يلعبون ويركدون
لم يكن العمل صامتًا، بل كان ينبض بالحياة. بين حين وآخر، كانت الأهازيج الأمازيغية تتعالى من حناجر المشاركين، رجالاً وشبانًا، ترنّموا بكلمات متوارثة تُلهب الهمم وتوقظ الحنين.
حين توسطت الشمس كبد السماء، وتوقف العمل قليلًا بعد أداء صلاة الظهر جماعة، حلّت لحظة استراحة طال انتظارها. اجتمع الجميع حول موائد بسيطة، لكنها غنية بالمحبة والرضى.
النساء قدّمن أطباقًا دافئة من الدجاج المحمر والسفة المغربية، تعلوها رائحة الزعفران والقرفة، مرفوقة بأكواب شاي ساخن وخبز تقليدي شهي.
محمد أحد ساكنة الدوار، شيخ سبعيني، قال ل”إعلام تيفي”، وهو يمسح العرق عن جبينه بقطعة قماش بسيطة: “كانت الشمس حارقة هذا اليوم، لكن دفء لمّة الأهالي أنسانا كل تعب. قبعة القش لم تفارق رأسي منذ الصباح، ومع ذلك، ما منحنا القوة للاستمرار ليس إلا روح التضامن”.
وأضاف:”رأيت الشباب يحملون أدوات العمل بحماس، والنساء يطهين بقلوب مفعمة بالعطاء، أما الأطفال فكانوا يتنقلون بيننا بفرح غامر. هذه هي تويزي التي نشأنا عليها، ونتمنى أن تظل حاضرة في حياتنا، تجمعنا دائماً.”
لم تكن “تويزي” في أصديف مجرد ورش لإصلاح الطريق، بل كانت ورشة لترميم المعنى، لتثبيت ما تآكل من الروابط، ولزرع ما اندثر من القيم.







