من “دكاكين” إلى “شركات سياسية”.. هل يتحرر تمويل الأحزاب أم يتضخم تضارب المصالح؟

حسين العياشي

تحوِّل المداولات الجارية حول مشروع القانون التنظيمي للأحزاب الأنظار إلى فكرة غير مسبوقة في المشهد الحزبي المغربي: “تمكين الأحزاب من تأسيس شركات خاصة واستثمار عائداتها في تمويل أنشطتها”. للوهلة الأولى تبدو الخطوة محاولة جريئة لفكّ الارتباط شبه الكامل بميزانية الدولة، وإسناد جزء من التمويل إلى سوقٍ يَكافئ الأداء والمهنية بدل الاكتفاء بالإعانات العمومية. غير أنّ الطريق بين النية والنتيجة محفوف بأسئلة الحوكمة وتضارب المصالح وصورة العمل الحزبي في المجتمع.

جوهر الفكرة بسيط: حزبٌ يُنشئ شركةً في مجالٍ مشروع ويستثمر عائداتها في أنشطته السياسية، وتأطير المواطنين، وتمويل الحملات وفق القوانين. مكمن القوة هنا ثلاثة: أولًا، تخفيف الضغط عن المال العام وإدخال منطق الاستدامة في تمويل التنظيمات. ثانيًا، دفع الأحزاب إلى تطوير كفاءات في التسيير والابتكار بدل الاتكال على الريع التنظيمي. ثالثًا، خلق سوق خدمات سياسية وإعلامية وتقنية أكثر احترافًا حول الأحزاب بدل شبكاتٍ رمادية غير خاضعة للرقابة.

لكن الوجه الآخر لا يقل وضوحًا: متى تصبح الشركة الحزبية بوابةً لتضارب المصالح، أو ذراعًا اقتصادية تُقايض الوصول إلى القرار بصفقاتٍ وامتيازات؟ وكيف نمنع تحوّل التنظيم من “مدرسةٍ للمواطنة” إلى “مقاولةٍ للنفوذ”؟ الاتهام السائد اليوم بأن بعض الأحزاب “دكاكين انتخابية” قد يتطوّر، في غياب الضوابط، إلى اتهامٍ أبعد: أحزاب “شركات” بهوياتٍ ضبابية، تُراكم الأرباح أكثر مما تبني الثقة العامة.

حتى لا تنقلب الوسيلة إلى غاية، يلزم إطار حوكمة مُحكم يسبق الترخيص ولا يلحقه. أولًا، فصلٌ مؤسسي ومالي صارم بين الحزب وشركته: حسابات مستقلة، مجالس إدارة مستقلة، ومدونات تضارب مصالح تُجبر المسؤول على الاختيار بين الموقع الحزبي والوظيفة التنفيذية داخل الشركة. ثانيًا، شفافية مالية مُعلنة: قوائم مدقَّقة سنويًا تُنشر للعموم، وتعريف المستفيدين الفعليين، ولوائح الخدمات والصفقات التي تبرمها الشركة مع القطاعين العام والخاص.

ثالثًا، تحييد الصفقات العمومية: حظر مباشر أو مقيد بدقة على استفادة الشركة الحزبية من الطلبيات العمومية أو من أي امتيازٍ تنظمه السلطة التي يشارك الحزب في قيادتها، منعًا لشبهة استغلال النفوذ. رابعًا، سقوف التمويل: تحديد نسبة قصوى من مداخيل الشركة يمكن تحويلها للحزب حتى لا يصبح التنظيم رهينة مزاج السوق، مع الإبقاء على مساهمةٍ عمومية مشروطة بالمحاسبة لضمان حدٍّ أدنى من الاستقلال عن تقلبات الاقتصاد.

خامسًا، حراسة أخلاقية وتنظيمية: مدونة سلوك تُجرّم التوظيف الاقتصادي للانتماء الحزبي، وآلية تبليغ آمنة عن الخروقات، وهيئة رقابية مستقلة بسلطات التحقيق والعقوبة، تمتد صلاحياتها إلى تدقيق الحسابات وعزل المسؤولين عند ثبوت المخالفات. وسادسًا، أثرٌ اجتماعي قابل للقياس: اشتراط خططٍ سنوية تُثبت أن العائدات تُترجم إلى برامج تكوين وتأطير وبحثٍ سياسي، لا إلى جهازٍ انتخابي دائم التمويل بلا مردودٍ ديمقراطي.

على مستوى الصورة الرمزية، تحتاج الأحزاب إلى تواصلٍ واضح: الشركة أداة تمويل وخبرة وليست بديلًا عن التنظيم ولا غايةً في ذاتها. أي تسمية أو علامة تجارية ينبغي أن تبتعد عن الشخصنة والرموز التاريخية حتى لا تختلط الحدود بين الرمز الوطني والمنتج التجاري. كما يلزم تجنّب القطاعات عالية المخاطر أخلاقيًا كالدعاية السياسية المدفوعة التي قد تُنتج تضاربًا مباشرًا مع قواعد المنافسة الانتخابية.

المكسب الحقيقي من الإجراء لن يأتي من الترخيص وحده، بل من «عقدٍ اجتماعي حزبي» يُعيد تعريف دور الحزب: تنظيمٌ يبتكر مصادر تمويل نظيفة، يصرّح بها، ويخضع للتدقيق، ويحوّلها إلى محتوى سياسي ومعرفة عمومية وخدمةٍ مدنية ملموسة. عندها فقط يتحول النقاش من السخرية على أسماءٍ محتملة لشركات حزبية إلى مساءلةٍ جادة حول الجودة، ومعايير العمل، والأثر على حياة المواطنين.

بين حزبٍ «طفيلي» يلتهم المال العام بلا مردود، وحزبٍ «مقاولة» تطارد الربح بلا بوصلة، توجد طريق ثالثة: تنظيم حديث يمارس السياسة كمنفعةٍ عامة والاقتصاد كأداةٍ شفافة لتمويلها. إذا وُضعت الحواجز الصحيحة على الطريق، يمكن لفكرة الشركات الحزبية أن تصبح خطوة في تحديث الوساطة السياسية بدل أن تكون محطةً أخرى في تآكل الثقة. وإلا فسنبدّل القفازات ونبقي اليد ذاتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى