السياسة بين الأمس واليوم

0

مقال رأي- حسام كنبر

أمام التحديات والعراقيل التي واجهها المغرب في الآونة الأخيرة ضد خصوم الوحدة الترابية والأطماع الخارجية، اكتسبت الديبلوماسية الخارجية التجربة والمرونة وجرعة ثقة في النفس جعلتها تردد مقولة ” مغرب اليوم ليس مغرب الأمس” فهل يمكن إسقاط المقولة على السياسة الداخلية للبلاد؟
عندما اقترن العمل السياسي بالنضال المبني على مبادئ الأفراد وقناعاتهم ،كان حكرا على فئة معينة ممن يتمتعون براسخية الإيمان وحرية الأفكار في بناء غد ديمقراطي عادل.
هذه الفئة تكونت غالبا ممن كادوا أن يكونوا رُسلا، من الفنانين والأدباء والمفكرين، وحتى الفلاحين والعمال الكادحين الذين شربوا نخب الوعي السياسي من جدول هؤلاء ،بالإضافة إلى الحركات الطلابية والتلاميذية التي شكلت آنذاك أهم ركائز القوى المناضلة.
اجتمع هذا الخليط المتجانس من مختلف شرائح المجتمع المغربي فجمعهم الحلم والطموح، جمعهم التشبع بالخيار الديمقراطي لبناء دولة الحق والقانون، دولة تسخر المؤسسات لخدمة المواطن أولا، دولة تحترم حقوق الإنسان وتحفظ كرامته، دولة تحقق التوزيع العادل للثروات والعدالة الإجتماعية.
هنا فطن النظام إلى خطورة هذا الخليط الذي أصبح بمثابة قنبلة موقوتة من شأنها العصف بأقوى وأشد الدول والحكومات، في هذه المرحلة من حكم الملك الراحل الحسن الثاني كان الصراع ثنائيا واضحا بين الدولة أو المخزن بمفهومه العميق والأحزاب السياسية والأذرع النقابية وكل الفرقاء المنضوية تحت لواء النضال الشعبي المؤطر ضد النظام القائم والطبقة البرجوازية المستفيدة من مخلفات المستعمر والراعية لمصالحه داخل أرض الوطن ، فما كان لهذا النظام إلا أن ينهج جميع الطرق والأساليب الردعية من ضرب وقمع إلى اعتقال تعسفي ونفي، وموت مشبوه في بعض الأحيان لإطفاء شعلة النضال والمناضلين،وزرع الرعب في نفوسهم فيما سٌمي بسنوات الجمر و الرصاص حينما قدم الشعب شهداء من أبنائه وفلذات الأكباد من إعلاميين ، سياسيين ،طلبة وتلاميذ ….
وبالفعل نجح النظام بطبيعته الزجرية في وقف زحف وانتشار الفكر التحرري الذي تبنته بالأساس أحزاب الكتلة الوطنية فدب الهلع، بسرعة النار في الهشيم، في عمق الشارع المغربي فأمست عبارة ” دخل سوق راسك ” شائعة وبكثرة في مختلف البيوت والأسر المغربية كنصيحة أولية للأبناء والإخوة من أجل تجنب العواقب المحتملة أو الأكيدة الناجمة عن العمل السياسي أوالخوض في أي نقاش يخص النظام الملكي والعائلة الملكية، مستدلين دائما بنماذج من أبناء الحي أو أسماء معروفة محليا أو بأسماء وطنية بارزة .
وعليه أصبح العمل السياسي مرتبطا وثوقا بعبارة ” دخل سوق راسك” كلما أراد أحد التحدث في السياسة سمع هذا الصوت القادم من غياهب القمع والترهيب” دخل سوق راسك … دخل سوق راسك”.
أما اليوم فقد تحول الخطاب بالموازاة مع مختلف التحولات التي عرفها المغرب، انطلاقا من حكومة التناوب التي تميزت بمشاركة اليسار في الحكم لأول مرة ، مرورا بالربيع العربي الذي أطاح بعديد الدول والحكومات العربية، لكن المغرب عرف كيف يخرج من عنق الزجاجة ، أمام حراك الشارع وحركة 20 فبراير الحاملة لشعار إسقاط الفساد ورموزه, والمطالبة بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، فكان الخلاص يكمن في دستور (2011) جديد وحكومة إسلامية تشارك في الحكم لأول مرة ( العدالة والتنمية ) ، هذا الدستور حدد طبيعة الحكم في نظام ملكي دستوري ، ديمقراطي برلماني يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتكاملها ، والإلتزام بالديمقراطية التشاركية القائمة على مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن الفشل بدا واضحا في تنزيل مقتضيات الدستور ليبقى حبيس الورق فلا حكامة في التدبير ولا محاسبة للمسؤلين الفاسدين والمبذرين للمال العام ،رغم كثرة التقارير السوداء التي رفعها المجلس الأعلى للحسابات برئاسة إدريس جطو في حق مؤسسات وإدارات ومسؤولين بعينهم، سمعنا كثيرا عن الإختلالات والفساد لكننا لم نسمع قط عن محاسبة زَيد ولا محاكمة عَمر ، عدا بعض أكباش الفداء، أما السلط فقد زاد تركيزها في يد المؤسسة الملكية فزاد معها قمع كل ا الأصوات المنادية بالمساواة والحرية والكرامة والتوزيع العادل للثروات.
في ظل النكوص على مستوى حقوق الإنسان والتراجع في مجال حرية الصحافة والتعبير والإحتقان الكبير الذي بات يعيشه الشارع المغربي بفعل تردي الأوضاع المعيشية وفساد المسؤولين ، ظهر حراك الريف (2016) كحركة شعبية ذات مطالب عادلة ومشروعة مختزلة في ضمان العيش الكريم، لما عرفته المنطقة من تهميش وإقصاء ، ما نتج عنه غضبة ملكية أطاحت بمجموعة من الوزراء والمسؤولين بعد تعثر مشروع منارة المتوسط الذي اعتبره المتتبعون الشرارة التي أشعلت فتيل الحراك، بعد مقتل محسن فكري، وأبانت عن ضعف الهيآت والمؤسسات الحزبية في لعب دور الوساطة بين الدولة والشعب و رفع صوته ومعاناته لسدة الحكم، طرح البدائل كقوة اقتراحية ،والعمل على تكوين الشباب وتأطيره وإدماجه.
. هذا ما عبر عنه الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 18 من توليه العرش(2017) ، حيث أعرب عن عدم رضاه على مردودية السياسيين والإداريين، ونشر فشلهم على أسوار القصر الملكي ،وأنهم ملزمون بأداء واجباتهم اتجاه الوطن والمواطن أو الإنسحاب ، وأنه إذا كان قد فقد الثقة في الأحزاب فماذا بقي للشعب.
وحرصا منه على مواكبة الهيآت السياسية وتحفيزها على تجديد أساليب عملها بما يساهم في الرفع من مستوى الأداء الحزبي ومن جودة التشريعات والسياسات العمومية قرر الملك في خطابه، إبان افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة للولاية التشريعية العاشرة (2018) ،أمام نواب الأمة ، الرفع من ميزانية دعم الأحزاب لتتمكن هذه الأخيرة من القيام بأدوارها كاملة وتخرج من حالة الركود وتعمل على تكوين الأطر والكفاءات ومتابعتهم على مستوى الدراسات العليا والبحث العلمي حتى يكونوا ثروة علمية تستفيد منها مختلف المؤسسات الحكومية وتذبير الشأن العام بصفة عامة.
لكن الواقع مرة أخرى يثبت العكس فمعظم الأحزاب اعتبرت هذا الدعم بمثابة رضى من طرف المؤسسة الملكية لما أصبحت تؤديه من دور فعال في تمرير قوانين حكومية لاشعبية ومباركة القرارات الفوقية وإحكام أبوابها في وجه الشباب المؤمن بضرورة التغيير وإحقاق الحق والعدالة الإجتماعية للمضي قدما في إرساء قواعد المسار الديمقراطي والتنمية البشرية والمستدامة، وضخ دماء جديدة في عروق هذه المؤسسات المتآكلة بفعل الريع السياسي والمكتسبات الغير مشروعة.
وهو ما دفع بهذا الشباب الوطني الحالم بمغرب عادل إلى ترك العمل السياسي أو الهجرة إلى الخارج لإستثمار مؤهلاته ، فبقي بين جدران مقرات الأحزاب شباب تشبع بالإنتهازية والوصولية فلا مصلحة له من وراء العمل السياسي سوى قضاء مآربه الشخصية إلا قلة قليلة ما تزال ترفع شارة النصر وتناضل من أجل تغيير وتأثيث البيت الداخلي بما يليق به ويرفع من شأنه.
إن فشل الأحزاب في تأطير الشباب وتقليدهم مسؤولية الإصلاح والنهوض بأوضاع البلاد في شتى المجالات راجع إلى فشل قياداتها والمؤسسة الملكية في إيجاد صيغة توافقية تخدم الوطن والمواطن، فالرأسمال البشري هو المحرك الرئيسي في تطور وازدهار الأمم، وهذا ما دفع بأغلب الشباب الحاصل على الشواهد و الديبلومات و العارف بخبايا اللعبة بالتهافت على الأحزاب عله يجد طريقه للإستفادة من الريع كباقي الشباب السياسي والقيادات -مع استثناء الفئة المبدئية والمناضلة الثابتة-، فانتشرت عبارة ” دخل دبر على راسك” بمعنى انخرط في العمل السياسي لقضاء مصالحك (التوظيف أو التعيين في المناصب العليا…).
أما الشباب البسيط فينتظر المحطات الإنتخابية ليبحث عن حزب يدفع مقابل خدماته المتمثلة في جمع بعض الشباب والمقربين ونساء الحي، يعرضهم ككتلة انتخابية في المزاد ،وآخر يبيع ترشيحه نضاليا مقابل مبلغ مالي أو وعد بتوظيف أو قضاء مأرب ويدعو العائلة وآخرين إلى الإنخراط بقوله ” دخل دبر على راسك دخل دبر على راسك)
إن التحول الجدري في جدوى الممارسة السياسية يسلط الضوء على الفرق الشاسع بين مغرب الأمس ومغرب اليوم، فإذا كان المغرب قد حقق قفزة، ومكتسبات نوعية على مستوى سياساته الخارجية وتموقعه كقوة إقليمية وشريك رئيس في خلق توازنات القوى الاقتصادية والسياسية الدولية ، فإنه كذلك لم يعد مغرب الأمس فيما يخص السياسة الداخلية التي شهدت فشلا ذريعا واندحارا مخيفا.
“مغرب اليوم ليس مغرب الأمس” مفارقة بين تطور السياسة خارجيا ونكوص مثيلتها داخليا، فما الذي جعل من أحزاب كانت تحصن مكتسبات الشعب وتدافع عن مطالبه واحتياجاته وتخلق طروحات وبدائل للتنمية و إدماجه، تتحول إلى آليات لضرب مكتسباته والمساهمة في قمعه وإساكته واستغلال خيراته واتخاد الريع والمصلحة الخاصة والنصيب من الكعكة هدف أسمى للممارسة السياسية، فأصبحت الأسر تنصح أبنائها بالإنخراط في الأحزاب لقضاء مصالحهم بقولهم ” دخل دبر على راسك، دخل دبر على راسك ”
هل انقلب السحر على الساحر ؟ بعدما كانت الدولة تحاول إضعاف الأحزاب والحد من تأثيرها وفاعليتها، وقعت في المحظور فأفرغتها من محتواها وأفقدتها مصداقيتها أمام الشعب، ثم عادت تحاول إنعاشها ونفخ روح الفعل السياسي المثمر فيها .
فعلا ” مغرب اليوم ليس مغرب الأمس “

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.